الثلاثاء، 15 ديسمبر 2015

قراءة مخططات نشوء الكون

قراءة مخططات نشوء الكون
تقرير خاص مجلة العلوم 

قراءة مخططات نشوء الكون(*)
شملت آخر خرائط الكون مئات الآلاف من المجرات،
التي نما تعنقدها، بدءا من تأرجحات أزلية.

حتى السبعينات من القرن العشرين، كانت الكوسمولوجيا (علم الكون)(1) حقلا يعجّ بالكثير من التخمينات والقليل من الحقائق الثابتة. لكن أرصادا وأعمالا نظرية جديدة جرت خلال العقدين الأخيرين غيرت ذلك الوضع تغييرا جذريا. فقد أصبحت الكوسمولوجيا فرعا كميا بالغ الدقة من فروع الفيزياء الفلكية يستند إلى أساس نظري تدعمه بيانات وفيرة. فنموذج الانفجار الأعظم big bang، الذي ينص على أن الكون بدأ يتوسع منذ 14 بليون سنة انطلاقا من حالة سادتها كثافة ودرجة حرارة بالغتا الكبر، يستطيع أن يفسر حركات المجرات ووفرة الهدروجين والهليوم وخواص الخلفية الكونية من الموجات الميكروية cosmic microwave background CMB وهي الحرارة المتبقية من الغاز الذي يتمدد ويتبرد.



يستطيع الكوسمولوجيون الآن أن ينتقلوا إلى المستوى التالي ويدّعوا فهم تَشَكُّل البنى في الكون. فقياسات توزع المجرات ذي المقياس الكبير كما ترسمه مشروعات وضع الخرائط السماوية، مثل مشروع سلون الرقمي لمسح السماءSloan Digital Sky Survey SDSS الجاري حاليا، تتفق اتفاقا رائعا مع التنبؤات النظرية. ولدينا حاليا نموذج متماسك يتتبع نمو التأرجحات الدقيقة للكثافة من بداية الكون إلى الغنى الذي نشهده حاليا في السماء ليلا.

تظهر للكون من حولنا بنية في جميع المقاييس. فالنجوم ليست مبعثرة بانتظام في الفضاء؛ بل هي متجمعة في مجرات. وشمسنا هي نجم من عدة مئات البلايين من النجوم في مجرة درب التبانة التي تشكل قرصا منبسطا جدا يبلغ قطره 000 100سنة ضوئية. ومجرة درب التبانة بدورها هي واحدة من عشرات البلايين من المجرات في الكون القابل للرصد. وتبعد أقرب مجرة كبيرة جارة لنا نحو مليوني سنة ضوئية. لكن المجرات ليست موزعة عشوائيا كحبات الزبيب في كعكة. فهناك ما بين 5 و 10 في المئة منها متجمعة في تجمعات عنقودية (تعنقدات) clustersيحوي الواحد منها حتى 1000 مجرة في حجم عرضه بضعة ملايين من السنين الضوئية.

وقد اعتاد معظم الفلكيين التفكير في أن تعنقدات المجرات كانت أكبر البنى المتماسكة في الوجود. ففي حين تنتمي النجوم إلى المجرات وينتمي العديد من المجرات إلى التعنقدات، لا يبدو أن التعنقدات متكتلة ضمن أجسام أكبر. وتتفق هذه الصورة اتفاقا دقيقا مع فهم النظريين للانفجار الأعظم. فحين طبق آينشتاين نظريته في النسبية العامة على الكون افترض افتراضا تبسيطيا كبيرا؛ فقد اعتبر الكون متجانسا(2) وسطيا ومتماثل المناحي(3). وقد سمّى هذا الافتراض المبدأ الكوسمولوجي cosmoligcal principle، وهذا المبدأ يكمن في أساس جميع النماذج العلمية الحديثة للكون.

بداية الاهتمام بالبنى الكبيرة(**)

يتطلب اختبار إمكان تطبيق المبدأ الكوسمولوجي خارج نطاق التجمعات العنقودية المجرية شيئا من التبصر العميق. فحين تُوجِّه مقرابا telescope نحو السماء في الليل تُظهر العدسة العينية النجوم والكواكب والمجرات. ولكنك لن تعرف، من دون معلومات إضافية، أيا من هذه الأجسام صغير وقريب وأيها كبير وبعيد. ولحسن الحظ بإمكان المقراب توفير هذه المعلومات. ففيما يتعلق بالمجرات يكمن الحل في أننا نعيش في كون يتوسع. والمجرات تبتعد إحداها عن الأخرى، وكلما كانت المجرة بعيدة كانت سرعة ابتعادها عنا أكبر. وتظهر هذه الحركة كانزياح نحو الأحمر في طيف المجرة، إذ تتناقص طاقة فوتوناتها (تنزاح الأطوال الموجية من الأزرق نحو الأحمر) بمقدار يعتمد على بُعدِها. وبعد أن توصل الباحثون إلى هذه العلاقة التي تسري على أجسام على بعد معلوم، صاروا يستخدمونها لدراسة المجرات المجهولة البعد. فهم يحصلون على أطيافها ويعينون انزياحات هذه الأطياف نحو الأحمر، ثم يستنتجون بُعدها عنا.

لقد أتاح التقدم في تقانة المقاريب والمكاشيف في نهاية السبعينات إجراء دراسات مكثفة تتعلق بالانزياح نحو الأحمر لطيوف المجرات وذلك بغية وضع خرائط ثلاثية الأبعاد للكون المحلي. وكنت قرأت، حين كنت طالبا في الجامعة مقالة(4) ذُكرت فيها تفاصيل بعض هذه الخرائط الثلاثية الأبعاد الأولى. وقد أورد مؤلفا المقالة إشارات مفادها أن مبدأ آينشتاين الكوسمولوجي قد يكون خاطئا: من ذلك اكتشاف بنى متماسكة كانت أكبر كثيرا من التجمعات العنقودية الإفرادية، وفراغات voids يبلغ عرضها العشرات من ملايين السنين الضوئية. لقد كنت مفتونا بهذه الأفكار وأذهلني استخدام علم وصف الكون cosmography في اكتشاف بنى جديدة تماما في الكون واعتبرت ذلك أحد أكثر الأمور العلمية إثارة، كما قادني ذلك إلى مهنتي الحالية.

في العام 1986 نشر <V .دولاپارنت> و <J .N. جيلر> و <P .J. هوشرا> [من مركز هارڤارد-سميثونيان للفيزياء الفلكية] خريطة لتوزع 1100 مجرة مأخوذة مما يمكن أن يكون مسحا شمل 18000 مجرة. وقد أكد هذا المسح غنى البنى الكبيرة وعمومية وجودها؛ كما كشف مظهرا رغويا(5) لاجدال فيه لتوزع المجرات، فهذه كانت متوضعة على طول خيوط تاركة فراغات هائلة. وكان من بين أكثر الملامح ظهورا بنية سُميت الجدار العظيمGreat Wall امتدت على مسافة 700 مليون سنة ضوئية من طرف المنطقة الممسوحة إلى طرفها الآخر. وبما أن الخريطة لم تُظهر نهاية الجدار فلم يكن معلوما امتداده الكلي.

الكون ذو بنى واضحة في مقاييس تصل إلى بليون سنة ضوئية أو ما يقارب ذلك. والمادة ليست مبعثرة عشوائيا فيه؛ فالثقالة نظمتها.

لقد أضاف وجود الجدار العظيم والارتياب حول امتداده مزيدا من الشك في أن يكون المبدأ الكوسمولوجي، ومن ثمّ دعاماتنا الأساسية النظرية حول توسع الكون، غير صحيح. فهل كان آينشتاين مخطئا؟ وهل أن الكون، لم يكن، وسطيا، متجانسا؟ لقد كان واضحا أننا كنا بحاجة إلى مسح حجومٍ أكبر لنتبين الحقيقة.

يؤكد نموذج الانفجار الأعظم أن البنية التي نراها اليوم في توزع المجرات نمت ابتداء من تغيرات كانت موجودة في الكون المبكر المتجانس تجانسا كاملا تقريبا. وهذه التأرجحات الأولية كانت دقيقة، فالكثافة لم تكن تختلف عموما من منطقة إلى أخرى إلا بجزء واحد من 100000 حسبما قيست في درجة حرارة الخلفية الكونية للموجات الميكروية [انظر: «السيفمونية الكونية» في هذا التقرير الخاص]. فإذا كانت لمنطقة من الفضاء كثافة أعلى من المعدل، كان لها جذب تثاقلي(6) أكبر، وكانت المادة بجوارها تنجذب إلى داخلها. وبالمثل، إذا كانت لمنطقة من الفضاء كثافة أقل قليلا من المعدل، فإن هذه المنطقة تفقد كتلتها مع مرور الزمن. وخلال هذه العملية من عدم الاستقرار التثاقلي أصبحت، في النهاية، أعلى المناطق كثافة هي التعنقدات المجرية الفائقة التي نراها اليوم. كما صارت المناطق الأقل كثافة هي الفراغات الخالية الواسعة.

حار وبارد(***)
حين اكتملت المسوح الأولى للانزياح نحو الأحمر، أدرك الفلكيون أن في الحكاية أمرا غير عادي. إذ لا تمثل المادة التي نراها في المجرات سوى جزء صغير (نحو 2 في المئة) من مجمل المادة في الكون. ولا تفصح بقية المادة عن نفسها إلا بصورة غير مباشرة من خلال تأثيراتها التثاقلية. وقد اقترح الفلكيون مجموعة من النماذج المختلفة لوصف هذه المادة الخفية dark matter. وتقع هذه النماذج في صنفين واسعين، بارد وحار، والفرق بينهما هو عامل حاسم في تطور بنية الكون.

ففي سيناريو المادة الخفية الباردة الذي اقترحه <E .J .P.پيبلز> [من جامعة پرنستون] وآخرون، فإن البنى الأولى التي تشكلت كانت أجساما صغيرة نسبيا كالمجرات وأجزاء مجرات. ومع مرور الزمن، جمعت الثقالة هذه الأجزاء بعضها إلى بعض مشكِّلة بنى أكبر. ووفق هذا النموذج يكون الجدار العظيم قد تشكل حديثا نسبيا. أما في سيناريو المادة الخفية الساخنة الذي افترضه <B .Y.زيلدوڤيتش> وزملاؤه [في جامعة موسكو الحكومية] فقد تحركت المادة الخفية بسرعة كافية في الكون البدائي، فسوت كل التجمعات العنقودية في المقاييس الصغيرة. وكانت الأشياء الأولى التي تشكلت هي صفائح كبيرة وخيوطا تمتد مسافات تبلغ عشرات أو مئات الملايين من السنين الضوئية، وهذه لم تتشظّ إلا لاحقا لتكوِّن المجرات. وبكلمة أخرى إن الجدار العظيم قديم.

وهكذا، لن يختبر الجيل التالي من المسوح مبدأ آينشتاين الكوسمولوجي ويحدد هوية أكبر البنى في الكون فحسب، وإنما سوف يسبر كذلك طبيعة المادة الخفية. وقد أجرى <A .S .شيكتمان > [من معهد كارنيگي في واشنطن] ومساعدوه مسحا من هذا النوع بين عامي 1988 و 1994 مستخدمين مقراب لاس كامپاناس ذا القطر 2.5 متر في تشيلي [انظر: «رسم خريطة الكون»، مجلة العلوم ، العدد (1999) 11، ص 24]. وقد ضم المسح 418 26انزياحا مجريا نحو الأحمر وشمل حجما أكبر كثيرا من المسح CfA الأصلي. وحسب تعبير <P .R .كيرشنر > [وهو أحد أعضاء الفريق CfA]: لقد وجد مسح لاس كامپاناس «نهاية العظَمَة»، فقد أبان توزعا للمجرات مماثلا لذلك الخاص بالمسح CfA، ولكنه لم ير بنى أكبر بكثير من الجدار العظيم، كما أظهر أن مبدأ آينشتاين الكوسمولوجي باق: فالكون متجانس ومتماثل المناحي عبر مسافات شاسعة.

لكن مسح لاس كامپاناس لم يكن كبيرا بدرجة تكفي لأن يُعد نهائيا. فهو لم يقدم معلومات عما كان يجري في مناطق من الفضاء اتساعها بليون أو بليونا سنة ضوئية. في هذه المقاييس الكبيرة يكون تفسير التجمعات العنقودية هو الأسهل من الناحية النظرية، لكنه الأصعب من حيث القياس التجريبي. وتكون التغيرات في أعداد المجرات في مثل هذه الحجوم طفيفة، ويسهل إدخال أخطاء في العينة؛ ويمكن أن تظهر نتائج عملية الانتقاء وكأنها تجمُّع عنقودي.

إن الفلكيين، على سبيل المثال، عادة ما يختارون جميع المجرات التي يزيد سطوعها على قيمة معينة لكي يضموها إلى مسح معين من مسوح الانزياح نحو الأحمر. فإذا قدروا سطوع مجرة بأكثر مما ينبغي في جزء من السماء، فسوف تحوي العينة عددا كبيرا من المجرات في تلك المنطقة، وهذا يؤدي إلى قياس خاطئ للتجمع العنقودي. وعلى هذا الأساس لا ينبغي لمسح نهائي للانزياح نحو الأحمر أن يشمل حجما هائلا فحسب، بل وأن يكون معايرا معايرة دقيقة.

نظرة إجمالية/ البنية الكونية(****)
يرسم الفلكيون، الذين يعملون كرسامي خرائط كونيين، خرائط ثلاثية الأبعاد أكثر فأكثر تفصيلا لأمكنة المجرات والتجمعات المجرية العنقودية. وأكبر هذه المشروعات، وهو مسح سلون الرقمي للسماء، يرسم ما يبلغ مليون مجرة تقع على مسافات تصل إلى بليوني سنة ضوئية.

تُظهر الخرائط أن المجرات منتظمة في بنى ضخمة تمتد على مئات الملايين من السنين الضوئية. وقد حددت هذه المسوح درجة التعنقد بدقة كبيرة. وتتفق النتائج مع التعنقد المتوقع من استنباط تأرجحات الإشعاع في الوقت الحاضر. ويشير هذا الاتفاق إلى أن لدى الفلكيين أخيرا وصفا منسجما ل14 بليون سنة من التطور الكوني.

في ليلة صافية...(*****)
في نهاية الثمانينات تعاون <E .J .گن > [من پرنستون] و<.G .R كورن >و <G .D .يورك >[من جامعة شيكاگو] إضافة إلى عدد آخر لمعالجة المسألة معالجة صحيحة، ذلك أنهم كانوا يسعون إلى قياس توزع المجرات في أكبر حجم حتى ذلك التاريخ مع مراقبة دقيقة للمعايرة. وبعد نحو عقد من الزمن بدأ العمل بمسح سلون الرقمي للسماء (SDSS)، وهو تعاون يكلف 80 مليون دولار ويضم 200 فلكي. ويستخدم هذا المشروع مقرابا خاصا ذا مرآة أولية قطرها 2.5 متر. ويعمل المقراب بأسلوبين: ففي الليالي الأكثر صفاء يستخدم كاميرا واسعة الزاوية تلتقط صورا معايرة بدقة للسماء في الليل في خمسة نطق bands عريضة من الأطوال الموجية. وتستخدم الكاميرا أدوات ذات قرن شحني CCD ومكاشيف إلكترونية عالية الحساسية يمكن معايرة استجابتها بدقة تبلغ 1 في المئة.

كيفية مسح الكون في أربع خطوات ليست على درجة كبيرة من السهولة(******)

يعمل مسح سلون Sloan الرقمي للسماء على إعداد أطلس لربع مساحة السماء. وسوف يستغرق ذلك خمس سنوات باستخدام مقراب قطره 2.5 متر مخصص لهذا الغرض أقيم على قمة آپاتش پوينت في نيومكسيكو.
يعمل المقراب بطريقة الكاميرا في الليالي الصافية فيلتقط صورا من خلال خمسة مرشحات لونية بمعدل 20 درجة مربعة في الساعة ـ ويبلغ ما يصوره المقراب كل ليلة ملايين الأجسام السماوية.

ُتحدَّد هويات المجرات والأجسام الأخرى بوساطة البرمجيات، ويُختار بعضها للمتابعة الطيفية. والجرم السماوي الذي يرى في الصورة هو المجرة الحلزونية UGC 03214 في كوكبة أوريون.

تغرز الألياف الضوئية داخل لوح معدني مزود ب640 ثقبا. وينقل كل ليف الضوء من جرم سماوي إلى راسم طيف يعمل حين لا تكون السماء صافية جدا.

توفر الأطياف الناتجة طريقة دقيقة لتصنيف الأجرام السماوية، ومنها يحدد الفلكيون أيضا الانزياحات نحو الأحمر، ومن ثم مسافات هذه الأجرام.

أما في الليالي المقمرة أو التي تغطي سماءها غيوم خفيفة، فيستخدم المقراب، بدلا من الكاميرا، زوجا من رواسم الطيف spectrographs للحصول على الأطياف ومنها الانزياحات نحو الأحمر، وذلك ل608 من الأجسام دفعة واحدة. ويأخذ الجهاز كذلك، كمرجع، أطياف 32 بقعة فارغة من السماء. وهذا المقراب، بخلاف المقاريب المعهودة التي تجزَّأ فيها الليالي بين العديد من البرامج العلمية، مخصص حصرا للمسح كل ليلة وعلى مدى خمس سنوات. ويقترب المشروع الآن من المنتصف في تحقيق هدفه المتمثل في قياس الانزياح نحو الأحمر لمليون مجرة وكوازار. وفي تقرير نصفي أَنجزتُ مع زملائي مؤخرا تحليل أول 000 200مجرة بانزياحاتها نحو الأحمر.

خرائط كونية(*******)

تُظهر هذه الأشكال توزع المجرات [النقاط] في بُعديْن من الفضاء. أما البعد الثالث، الذي يعطي زاوية تبلغ عدة درجات، فقد جُعل منبسطا. وتكشف هذه الأشكال وجود «جدارين عظيمين» مثيرين يضم كل منهما آلاف المجرات، كما تكشف وجود خيوط وفراغات في جميع المقاييس.

اكتشف مسحُ الانزياح نحو الأحمر، الذي أجراه مركز الفيزياء الفلكية السميثوني في هارڤارد (CfA) في أواسط الثمانينات من القرن العشرين، الجدارَ العظيم الأول، لكن المسح كان محدودا جدا لإدراك الامتداد الكامل للجدار.
يشمل مسح سلون الرقمي للسماء SDSS، الذي يُجرى حاليا، حجما أكبر بكثير. وقد وجد جدارا عظيما آخر يبلغ طوله أكثر من بليون سنة ضوئية. والمنطقة التي تظهر في الأعلى هي 1 في المئة تقريبا من حجم سلون الكامل. ويشمل المخطط في اليمين حجما أكبر بست مرات، والجزء المحدد يشير إلى موضع الصورة في الأعلى، كما تشير الدوائر المتمركزة إلى المسافة مقدرة بملايين السنين الضوئية.

وفي مسعى مواز بنى فريق من الفلكيين الاُستراليين والبريطانيين راسم طيف للمقراب الأنكلو-أسترالي ذي القطر 3.9 متر، القادر على قياس أطياف 400 جسم دفعة واحدة ممتدة على حقل نظر مقداره درجتان من كل جانب (وهذا ما جعل المقراب يستحق التسمية «حقل الدرجتين» Two Degree Field أو 2dF). لقد عمل الفريق2dF انطلاقا من كاتالوگات المجرات المرسومة استنادا إلى ما كان متوافرا من قبل من أطالس صور فوتغرافية ممسوحة إلكترونيا ومعايرة بعناية. والمسح الذي صار كاملا حاليا، قاس الانزياح نحو الأحمر لعدد من المجرات يبلغ 221 414 مجرة في مدة زمنية امتدت خمس سنوات.

التوزع الإجمالي لبنية الكون(********)
يمكن أن تخلُص الخرائط التي تنتجها مسوح المجرات إلى طيف استطاعة يُظهر تغير الكثافة الجزئي [المحور الشاقولي] من موضع إلى آخر في مناطق ذات أحجام مختلفة [المحور الأفقي]. ويمكن أن ُترسم البيانات الأخرى ـ مثل الخلفية الكونية من الموجات الميكروية والمفعول العدسي التثاقلي ومسوح التعنقد المجري وسُحب غاز الهدروجين ـ بالطريقة نفسها. وهي تتبع الخط العام نفسه [الخط المستمر]. وتقترب التأرجحات النسبية من الصفر مثبتة صحة مبدأ آينشتاين الكوسمولوجي. تمثل الأسهم الحدود العليا.

تصف مسوحنا توزع المجرات، وهي لا ترى المادة الخفية التي تكوّن معظم كتلة الكون. وليس لدى الباحثين سبب يدعوهم لافتراض أن توزع المجرات مماثل لتوزع المادة الخفية. فعلى سبيل المثال، قد تنحو المجرات إلى أن تتشكل فقط في المناطق التي تحتوي كثافة أعلى من المعدل من المادة الخفية ـ وهذا سيناريو يشير إليه الفلكيون على أنه منحرف.


لقد بينت مع زملائي، لدى تحليل الأجيال السابقة من مسوح الانزياح نحو الأحمر، أن توزعات المجرات والمادة الخفية مرتبطة ارتباطا وثيقا، ولكننا لم نتمكن من التمييز بين النماذج البسيطة للانحراف والحالة غير المنحرفة. وحديثا قامت <L .کرديه > [من جامعة پنسلفانيا] مع زملائها باستخدام المسح المجري للانزياح نحو الأحمرdF2 لقياس مجموعات من ثلاث مجرات. وتبين أن عدد هذه الثلاثيات يعتمد على الكتلة الكلية، ومن ضمنها كتلة المادة الخفية. ووجد الباحثون أن توزع المجرات غير منحرف أصلا: فكثافة حقل المجرات هي مثل كثافة المادة الخفية، وهذا يعني أن مسوح المجرات تبين بدقة التوزع الإجمالي للمادة في الكون.

قوة طيف الاستطاعة(**********)
ومع أخذ هذا الاحتياط في الاعتبار، يستطيع الكوسمولوجيون تفسير خرائط المجرات. ومن أكثر أدوات الإحصاء فائدة لوصف التجمعات العنقودية للمجرات هو طيف الاستطاعة power spectrum. تخيل أن سلسلة من الكرات ذات نصف قطر معين (وليكن 40 مليون سنة ضوئية) وضعت بطريقة عشوائية في الكون وجرى إحصاء عدد المجرات في كل منها. سوف يختلف العدد اختلافا بينا من كرة إلى أخرى بسبب كون المجرات على شكل تجمعات عنقودية. إن التغير في عدد المجرات هو قياس تكتل lumpiness توزع المجرات في مقياس يبلغ، في هذه الحالة، 40 مليون سنة ضوئية. ويكرر الكوسمولوجيون هذا الإجراء باستخدام كرات ذات أنصاف أقطار متباينة لقياس هذا التكتل في مقاييس مختلفة.

ويشبه ذلك أن يُعبّر عن صوت معقد بدلالة المساهمات من موجات صوتية ذات أطوال مختلفة. وجهاز تحليل الأصوات في منظومة موسيقية منزلية يمكن أن يقوم بهذه المهمة: فهو يُبين كم هي مرتفعة النغمات العميقة (ذات الأطوال الموجية الطويلة جدا) وكم هي مرتفعة النغمات العالية (ذات الأطوال الموجية الأقصر) وهكذا... وفي حفل موسيقي يستطيع شخص ذو أذن موسيقية مدربة أن يميز بسهولة صوت آلة الپيكّولو من آلة الباسون. ويفعل الكوسمولوجيون الشيء ذاته بالنسبة إلى توزع المجرات. فالمقدار النسبي من البنية في المقياسين الكبير والصغير هو مسبار كوسمولوجي قوي.

لقد قاس طيف الاستطاعة كل من فريق dF2 وفريق سلون Sloan، وكانت نتائجهما متفقة. وأول ما يُلاحظ هو أن التأرجحات تكون أضعف كلما كانت المقاييس أكبر [انظر الشكل في الصفحة 71]. وتعني التأرجحات الضعيفة أن توزع المجرات قريب جدا من كونه متجانسا، مثلما يتطلب تماما مبدأ آينشتاين الكوسمولوجي.

بناء كون(**********)
يعمد الكوسمولوجيون إلى المحاكاة الحاسوبية للربط بين تجمع المادة اليوم [وهذا ما كشفه مشروع سلون ومشروعات أخرى لوضع الخرائط] وتجمعها في الكون المبكر [وهو ما كشفته أرصاد الخلفية الكونية الإشعاعية من الموجات الميكروية أو CMB]. وكل صورة هي لقطة في زمن معين بعد بداية توسع الانفجار الأعظم. والصور ليست في المقياس نفسه بسبب توسع الكون: فعرض الأولى هو نحو خمسة ملايين سنة ضوئية، أما الأخيرة فيبلغ عرضها نحو 140 مليون سنة ضوئية. والنقاط تمثل المادة. لقد أجريت المحاكاة في المركز القومي لتطبيقات الحواسيب الفائقة [الفيلم الكامل متوافر لدىcfcp.uchicago.edu/Iss/filaments.html].

1
120 مليون سنة: في زمن مبكر كانت المادة مبسوطة في بحر متجانس تقريبا ذي تموجات خفيفة.

2
490 مليون سنة: اكتسبت المناطق الكثيفة مزيدا من المادة على حساب المناطق الأقل كثافة. وتكونت أولى المجرات.
3
1.2 بليون سنة: مع مرور الزمن جذبت الثقالة المادة داخل خيوط شاسعة وأخلت الفضاءات التي تتخللها.
4
13.7 بليون سنة [اليوم]: تَوقف نمو البنى الكبيرة لأن التسارع الكوني يعاكس التجمع.
ثانيا، حين يُرسم طيف الاستطاعة في مقياس لغاريتمي، فإنه لا يتبع خطا مستقيما. والانحراف عن الخط المستقيم هو تأكيد على أن ديناميك الكون تغير مع مرور الزمن. وقد استنتج الفلكيون، من أرصاد أخرى، أن كثافة طاقة الكون تسيطر عليها المادة ومركبة أخرى غامضة تعرف باسم الطاقة الخفية dark energy. والفوتونات، التي تدهورت طاقتها بسبب توسع الكون، ليست ذات شأن. لكن إذا عدنا القهقرى عبر الزمن، كانت الفوتونات مسيطرة حين لم يكن عمر الكون أكثر من 000 75سنة. وحين كانت الفوتونات هي المسيطرة، لم تسبب الثقالة تأرجحات تنمو مع الزمن كما هي الحال اليوم. وهذا، بدوره، جعل طيف الاستطاعة يسلك سلوكا مختلفا في أكبر المقاييس (أكثر من نحو 1.2 بليون سنة ضوئية).

ويوفر المقياس الدقيق لهذا الانحراف قياسا للكثافة الإجمالية للكتلة في الكون. وتتفق النتيجة ـ وهي تقريبا 10-27 2.5xكيلوغرام في المتر المكعب من الفضاء ـ مع القيمة المستنتجة من قياسات أخرى. وأخيرا يوحي مجمل هذه النتائج بشدة بأن المادة الخفية هي كلها من النوع البارد. إذ إن المادة الساخنة كانت ستسوي التأرجحات في توزع المجرات في المقاييس الأصغر، وهذا ما لا يشاهد.

وينبغي ببساطة أن تكون التأرجحات التي رصدناها في توزع المجرات في المقاييس الكبيرة، شكلا مضخما من تلك التي كانت في الكون البدائي. وهذه التأرجحات المبكرة تظهر مباشرة في الإشعاع CMB، وبذا يمكننا أن نقارن مباشرة طيف الإشعاع CMB وأطياف الاستطاعة المجرّية. والمدهش هو أننا نحصل على أجوبة متوافقة من كلتا الطريقتين. وتتأرجح كثافة المجرات، في المقاييس التي تقترب من بليون سنة ضوئية، بنحو جزء واحد من عشرة أجزاء. أما التأرجحات التي تظهرها الخلفية الكونية من الموجات الميكروية (الإشعاع CMB) والتي تقدر بجزء من 000 100حين تمدد إلى الوقت الحاضر، فهي على اتفاق جيد. وهذا يعطينا الثقة بأن الصورة الكوسمولوجية التي لدينا ـ الانفجار الأعظم وعدم الاستقرار التثاقلي وغير ذلك ـ هي بالفعل صحيحة.

مستقبل دراسات البنى ذات المقاييس الكبيرة(***********)
يسبر المسح المجري SDSS الرئيسي بنية الكون في مقاييس تقع بين 100 مليون وأكثر من بليون سنة ضوئية. أما لسبر مقاييس أكبر من هذه فإن لدى المسح SDSS عينة ثابتة مساعدة لمجرات لامعة لمعانا بالغ الشدة تمتد على بُعْد يزيد على خمسة بلايين سنة ضوئية. وفي حال المقاييس التي هي أصغر تظهر عينة ثالثة عند خطوط الامتصاص في أطياف الكوازارات البعيدة التي يمر ضوؤها عبر شبكة كثيفة من سحب غاز الهدروجين الذي لم يتحول بعد إلى مجرات.

يعمل الكوسمولوجيون على هذه البيانات ليجعلوا الارتباط أوثق بين البنى الكونية (التي ترى حاليا وفي الماضي غير البعيد) والخلفية الكونية من الموجات الميكروية (التي تسبر بنى كونية في الكون المبكر جدا). وبوجه خاص، يُبين طيف الاستطاعة للخلفية من الموجات الميكروية، سلسلة نتوءات مميزة تبين المقادير النسبية لكل من المادة الخفية والمادة العادية. ويأمل الباحثون أن يجدوا النتوءات المقابلة في طيف الاستطاعة للزمن الحالي. فإذا تمكنوا من ذلك، فسيكون هذا بمثابة إثبات إضافي بأن التأرجحات التي ترصد اليوم تطورت مباشرة ابتداء من تلك المرئية في الكون مبكرا.

وهناك طريقة أخرى لتتبع تطور البنى مع مرور الزمن، ألا وهي سبر توزع مجرات أكثر بعدا ـ فالنظر إلى مسافات كبيرة هو النظر إلى أزمنة غابرة. وينبغي أن تكون المادة الخفية في تلك الأزمنة المبكرة متعنقدة تعنقدا خفيفا بسبب أن عدم الاستقرار التثاقلي لم يكن لديه وقت كاف ليفعل فعله. لكن المسوح التي أجريت بوساطة «المقراب الكبير جدا في المرصد الأوروبي الجنوبي» ESOVLT في تشيلي ومرصد كيك Keck في هاواي تبين أن درجة تعنقد المجرات البعيدة بعدا هائلا هو بالضبط كتعنقدها اليوم، وأنها مرتبة حسب البنى الخيطية والفقاعية نفسها كما هي حال المجرات القريبة. وهذا يدعو للاستغراب. فهذه المجرات المبكرة، بخلاف مجرات اليوم التي تتبع المادة الخفية، ينبغي أن تكون متعنقدة بقوة أكبر كثيرا من تعنقد المادة الخفية الأساسية. وهذا النمط هو دليل مهم يمكن أن يشير إلى كيفية تشكل المجرات.

لقد اقترب الباحثون من فهم تطور بنية الكون فهما كاملا بدءا من تموجات في الپلازما الأولى إلى تعنقد المجرات الساطعة في الكون حاليا. وبعد هذا فإن عملهم في السنين المقبلة قد اختزل من أجلهم. ما هي بالضبط الآلية التي أدت إلى التأرجحات الأولى في الخلفية الكونية من الموجات الميكروية؟ وكيف تشكلت المجرات بالضبط؟ ولماذا تمتلك المجرات خواصها بالذات؟ وهل كان يمكن أن تجري الأمور بأية طريقة أخرى ـ أي هل يمكن للمرء أن يتخيل كونا ذا تأرجحات بدأت بسعات أكبر أو أصغر بكثير؟ هذه الأسئلة هي من الأسئلة الكبيرة التي ربما سوف توحي لطالب في ثانوية أو كلية يقرأ هذه المقالة أن يعمل على دراستها والبحث فيها.

المؤلف
Michael A. Strauss

نائب رئيس مشروع مسح سلون الرقمي للسماء والناطق الرسمي باسم هذا المشروع الذي يهدف إلى وضع خريطة كاملة لربع السماء. حصل على الدكتوراه في الفيزياء من جامعة كاليفورنيا في بركلي، وأنجز أعمال ما بعد الدكتوراه في معهد كاليفورنيا للتقانة وفي معهد الدراسات المتقدمة في پرنستون بولاية نيوجرسي. ويشغل حاليا منصبا في جامعة پرنستون. وقد جاء ذكر المؤلف في عدد الشهر 9 /2002 من مجلة New Jersey Monthly بوصفه واحدا من الذين لديهم أفضل الوظائف في ولاية نيوجرسي.

مراجع للاستزادة 

Cosmological Physics. John A. Peacock. Cambridge University Press, 1998.

Cosmology: The Science of the Universe. Second edition. Edward Harrison. Cambridge University Press, 2000.

The 2dF Galaxy Redshift Survey: The Power Spectrum and the Matter Content of the Universe. Will J. Percival et al. in Monthly Notices of the Royal Astronomical Society, Vol. 327, No. 4, pages 1297-1306; November 2001. Available online at arXiv.org/abs/astro-ph/0105252

From Here to Eternity. Valerie Jamieson in New Scientist, Vol. 180, No. 2422, pages 36-39; November 22, 2003. The centerfold map is also available at www.astro.princeton.edu/-mjuric/universe/

The Three-Dimensional Power Spectrum of Galaxies from the Sloan Digital Sky Survey. Max Tegmark et al. in Astrophysical Journal (in press). arXiv.org/abs/astro-ph/0310725

The official Web site of the Sloan Digital Sky Survey is www.sdss.org

The official Web site of the 2d F Galaxy Redshift Survey is msowww.anu.edu.au/2dFGRS


(*) READING THE BLUEPRINTS OF CREATION

(**) Becoming Aware of Large Structures

(***) Running Hot and Cold

(****) On a Clear Night ...

(*****) Overview / Cosmic Structure

(******)How to Survey the Cosmos in Four Not-So-Easy Steps

(*******)Cosmic Maps

(********) Overall Distribution of Cosmic Structure

(*********) The Power of the Power Spectrum

(**********) Building A Universe

(***********) The Future of Large - Scale Structure Studies

(1) أي دراسة الكون بمجمله.

(2) homogeneous: ليس فيه كتل أو نتوءات كبيرة.

(3) isotropic: يبدو متماثلا في جميع الاتجاهات.

(4) [انظر: Superclusters and Voids in the Distribution of Galaxies

by S. A. Gregory - L. A. Thompson; Scientific American, March 1982

(5)frothy

(6)gravitational
....................عن ويكبيديا.................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق