ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب الحنبلي رحمه الله
الجزء الأول
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم.
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أزواجه الطيبات الطاهرات، أمهات
المؤمنين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الشيخ الإمام، العالم المقرىء، العامل الزاهد، الحافظ المحدث، زين الدين أبو
الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الزاهد، الإمام العالم المقرىء، شهاب الدين، أبي العباس
أحمد بن حسن بن رجب- رحمهم الله تعالى برحمته-: هذا كتاب جمعته، وجعلته ذيلاً على
كتاب طبقات فقهاء أصحاب الإمام أحمد للقاضي أبي الحسين محمد بن القاضي أبي يعلى.
رحمهم الله تعالى.
وابتدأت فيه بأصحاب القاضي أبي يعلى. وجعلت ترتيبه على الوفيات. والله المسؤول أن
ينفع به في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.
وفيات المائة الخامسة
من سنة 460 ه إلى سنة 500 ه
علي بن أبي طالب بن زِببْيَا البَغدادي، أبو الغنائم
من قدماء أصحاب القاضي أبي يعلى، تفقه
عليه.
قال القاضي أبو الحسين: كان يدرس في الحريم بالمسجد المقابل لباب بدر، له أيضًا
حلقة بجامع المهدي. وقرأ عليه أبو تراب بن البقال، وأبو الحسين بن الفاعوس
وغيرهما. نسخ بخطه كثيراً من تصانيف القاضي، كالخلاف الكبير، نسخه مرتين، والعدة،
وأحكام القراَن، والجامع الصغير. وغير ذلك.
وهو أولى من توفي من أصحاب القاضي أبي يعلى بعده بنحو سنة. ودفن قريبًا منه. رحمه
الله.
ذكره ابن النجاد قال: كان من أعيان أصحاب القاضي أبي يعلى، وله حلقة بجامع المهدي
للمناظرة. روى عن أبي الحسين بن بشران، ونصر بن محمد بن علي الآمدي. روى عنه
القاضي عزيزي بن عبد الملك الجيلي. ثم أرّخ وفاته يوم الخميس ثاني عشرين شهر ربيع
الآخر سنة ستين وأربعمائة. وصُلي عليه من الغد بجامع القصر. وكان له جمع كثير.
و "زِبِبْيَا" قيّده ابنُ نقطة: بكسر الزاي، وكسر الباء المعجمة بواحدة
بعدها باء أخرى مثلها ساكنة، وياء مفتوحة معجمة من تحتها باثنتين.
وقال ابن عقيل: كان من أصحاب القاضي أبي يَعْلَى أرباب الحلق: ابن الباز كردي،
وابن زِبِبْيَا، فقيهان مفتيان، ولهما حلقتان بجامع الرصافة، يقصَّان الفقه شرحًا
للمذهب على وجه ينتفع به العوام.
عليّ بن الحسن القرميسيني أبو منصور:
ذكره أبو الحسين، وقال: أحد من علق عن
الوالد من الخلاف والمذهب. وسمع منه الحديث، وزوَّج ابنته لأبي علي بن البناء،
وأولدها أبا نصر.
وتوفي في رجب سنة ستين وأربعمائة عن ست وثمانين سنة، ودفن بباب حرب.
عبد الله بن عبد الله بن عبيد الله بن توبة العكبري:
الخياط الأديب الكاتب، أبو محمد.
روى عن الأحنف العكبري من شعره. روى عنه الخطيب.
وتوفي يوم الثلاثاء سابع عشر محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة.
ذكره ابن البناء في تاريخه، وقال: هو صاحب الخط والأدب.
عبد الله البرداني، أبو محمد الزَّاهد:
كان منقطعًا في بيت بجامع المنصور،
يتعبد خمسين سنة.
قال ابن البناء: كان من خيار المسلمين، لا يقبل من أحد شيئًا، مع الزهادة
والعبادة. روى عنه أبو بكر المَزْرَفِيّ الفرضي أنه قال: رأيتُ النبي صلى الله
عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا عبد الله، مَنْ تمسَّك بمذهب أحمد في الأصول
سامحتُه فيما اجترح- أو فيما فرَّط- في الفروع.
وذكر ابن البناء، عمن يثق به: أنه رأى في منامه، في حياة البَرَداني- هذا-
مَلَكَينِ قد نزلا من السماء، فقال أحدهما لصاحبه: فيم جئتَ? قال: جئتُ أخسف بأهل
بغداد، فإنَه قد عمَّ فيها الفساد! فقال له الملك الآخر: كيف تفعل هذا، وفيها عبد
الله البرداني? قال ابن البناء: توفي عبد الله البرداني الزاهد الحنبلي يوم السبت
سادس ربيع الأول، سنة إحدى وستين وأربعمائة. وصلى عليه بجامع المنصور. وكان خلقًا
عظيمًا. دُفن في مقبرة الإمام أحمد، وتولّى غسلَه والصلاةَ عليه الشريفُ أبو جعفر.
رحمه اللّه تعالى.
علي بن محمد بن عبد الرحمن البغدادي
أبو الحسن المعروف بالآمدي ويعرف
قديمًا بالبغدادي: نزل ثغر اَمد. وهو أحد أكابر أصحاب القاضي أبي يعلى.
قال ابن عقيل فيه: بلغ من النظر الغاية، وكانت له مروءة. يحضر عنده الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي، وأبو الحسن الدَّامَغَاني- وكانا فقيهين- فيضيفهما بالأطعمة
الحسنة، وكان يتكلم معهما إلى أن يمضي من الليل أكثره.
وذكر أنه كان هو المتقدم على جميع
أصحاب القاضي أبي يعلى.
قال ابن عقيل: وسمعتُ المتولي لما قَدم: يذكر أنه لم يشهد في سفره أحسن نظرًا من
الشيخ أبي الحسن البغدادي بآمد.
قال القاضي أبو الحسين، وتبعه ابن السَّمعاني: أحد الفقهاء الفضلاء، والمناظرين
الأذكياء. وسمع الحديث من أبي القاسم بن بشران، وأبي إسحاق البرمكي، وأبي الحسن بن
الحراني، وابن المذهب وغيرهم. وسمع من القاضي أبي يعلى، وأبي الحسن بن الحراني،
وابن المذهب وغيرهم. وسمع من القاضي أبي يعلى، ودرس عليه الفقه، وأجلس في حلقة
النظر والفتوى بجامع المنصور في موضع ابن حامد. ولم يزل يدرّس ويفتي ويناظر إلى أن
خرج من بغداد، ولم يحدّث ببغداد بشيء، لأنه خرج منها في فتنة البَسَاسِيرِي، في سنة
خمسين وأربعمائة إلى اَمد، وسكنها واستوطن بها، ودرس بها الفقه إلى أن مات في سنة
سبع- أو ثمان- وستين وأربعمائة. وقبره هناك مقصودٌ بالزيارة. وكان يدرس في مقصورة
بجامع آمد.
وله هناك أصحاب يتفقهون عليه. وبرع منهم طائفة.
وله كتاب: "عمدة الحاضر وكفاية المسافر" في الفقه، في نحو أربع مجلدات،
وهو كتاب جليل يشتمل على فوائد كثيرة نفيسة. ويقول فيه: ذكر شيخنا ابن أبي موسى في
الإرشاد، فالظاهر: أنه تفقه عليه أيضًا. وسمع منه بأمد: أبو الحسن بن الغازي
السُّنةَ للخلاّل عن أبي إسحاق البرمكي، وعبد العزيز الأزَجي.
محمد بن عمر بن الوليد الباجسرائي
الفقيه، أبو عبد الله: قال أبو الحسين:
كانت له حلقة بجامع المنصور، تردد إلى مجلس الوالد السعيد الزمان الطويل، وسمع منه
الحديث والدرس.
ومات سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد بلغ من السن خمسًا وتسعين سنة. رحمه الله
تعالى.
محمد بن علي بن محمد بن موسى بن جعفر، أبو بكر الخيّاط، المقرىء البغدادي
ولد سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وقرأ على
أبي أحمد الفرضي، وأبي الحسين السَّوسَنْجِرْدي، وبكر بن شاذان، وأبي الحسن
الحمامي، وغيرهم. وسمع الحديث من ابن الصَّلت المُجَبّر، وأبي عمر بن مهدي، وخلق
مِنْ طبقتهما. ورأى أبا عبد الله بن حامد. كان يتردَّدُ إلى القاضي أبي يَعلى،
ويَسمَعُ درسه، ويحضر أماليه، واشتغل بإقراء القرآن، ورواية الحديث في بيته ومسجده
وجامع المنصور. وكان يحضره خلق كثير.
وقرأ عليه خلق، منهم: القاضي أبو الحسين بن القاضي أبي يَعلى، وأبو عبد الله البارع،
وأبو بكر المزْرفي، وهبة اللّه بن الطبري.
وَحَدّث عنه جماعةٌ كثيرون، منهم: أبو بكر الخطيب في تاريخه، وأبو منصور القزاز،
ويحيى بن الطراح، وغيرهم. وانتهى إليه إسناد القراءة في وقته.
قال ابن الجوزي: ما يوجد في عصره في القراءات مثله. وكان ثقة صالحًا.
وقال المؤتمن الساجي: كان شيخًا ثقةً في الحديث والقراءة، صالحًا، صبورًا على
الفقر.
وقال أبو ياسر البرداني: كان من البكائين عند الذكر، أَثرت الدموع في خدّيه.
وقال ابن النجار: كان شيخ القراء في وقته، تفرد بروايات، وكان عالمًا، ورعًا
متدينًا.
وذكره الذهبي في طبقات القُراء، فقال: كان كبير القدر، عديم النظير، بصيرًا
بالقراءات، صالحًا عابدًا، ورعًا ناسكًا، بكاء قانتًا، خشن العيش، فقيرًا متعففاً،
ثقة فقيهاً على مذهب أحمد. وآخر من روى عنه بالإجازة: أبو الكرم الشهرزوري.
قال ابن الجوزي: تُوفي ليلة الخميس ثالث جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة،
ودفن في مقبرة جامع المدينة- يعني مدينة المنصور- قال غيره: صلَّى عليه أبو محمد
التميمي في الجامع.
علي بن الحسين بن أحمد بن إبراهيم بن جَدَا، أبو الحسن العكبري:
ذكره ابن شافع في تاريخه، فقال: هو
الشيخ الصالح، الزاهد، الفقيه، الأمّار بالمعروف، والنهّاء عن المنكر.
سمع: أبا علي بن شاذان، والبرقاني، وأبا القاسم الخِرَقي، وأبا القاسم بن بُشْران.
وكان فاضلاً، خيرًا ثقة، مستورًا صينًا، شديدًا في السنة على مذهب أحمد. رضي الله
عنه.
وقال القاضي أبو الحسين، وابن السمعاني: كان شيخًا صالحًا، دينًا كثير الصلاة، حسن
التلاوة للقرآن، ذا لَسَن وفصَاحة، في المجالس والمحافل، وله في ذلك كلام منثور،
وتصنيف مذكور مشهور.
وذكره أبو الحسين وابن الجوزي وقالا: سمع من أبي علي بن شهاب، وأبي علي بن شاذان،
وكان فقيهًا صالحًا فصيحًا.
قال أبو الحسين: قرأ الفقه
على الوالد السعيد، وله مصنف في الأصول. وتوفي فجأة في الصلاة في رمضان سنة ثمان
وستين وأربعمائة، ودفن في مقبرة أحمد.
وذكر ابن شافع وغيره: أنه توفي يوم الأحد سابع عشر رمضان المذكور.
وقال ابن شافع: جَدَا- بفتح الجيم- كذا سمعتُه من أشياخنا، ورأيته مضبوطًا بخط
أسلافنا.
وروى عنه القاضي أبو بكر، وأبو منصور القزاز، وسمع منه مكي الرُّميلي الحافظ
وجماعة.
وقال ابن خيرون: حدث بشيء يسير، كان مستورًا صينًا ثقة.
وروى عنه الخطيب فقال: حدثني علي بن الحسين بن جَدَا العكبري قال: رأيتُ هبة اللّه
الطبري في المنام، فقلت: ما فعل الله بك. قال: غفر لي. قلت: بماذا. قال: كلمة
خفيفة: بالسنة.
قال الحافظ عبد القادر الرهاوي: أنبأنا أبو موسى المديني الحافظ قال: رَأيتُ بخط
ابن البناء- وقرأته على ابن ناصر بإجازته من ابن البناء- قال: حكى أبو الحسن علي
بن الحسين بن جَدا العكبري قال: سمعت أبا مسعود أحمد بن محمد البجلي الحافظ قال:
دخل ابن فَورك على السلطان محمود، فتناظرا.
قال ابن فورك لمحمود: لا يجوز أن تصف الله بالفوقية، لأنه يلزمك أن تصفه بالتحتية.
لأنه من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت.
فقال محمود: ليس أنا وصفته بالفوقية، فتُلْزِمني أن أصفه بالتحتية، وإنما هو
وَصَفَ نفسه بذلك. قال: فبهت.
أخبرنا محمد بن إسماعيل الصوفي- بالقاهرة- أخبرنا عبد العزيز بن عبد المنعم
الحراني أخبرنا أبو علي بن الحريف أخبرنا القاضي أبو بكر بن عبد الباقي أخبرنا أبو
الحسن بن جدا أخبرنا أبو القاسمة هبة الله بن الحسن الطبري الحافظ قال: ذكر أن فتى
من أصحاب الحديثأنشد في مجلس أبي زرعة الرازي هذه الأبيات، فاستُحسنت منه:
دين النبي "محمد" أخـتـارُ |
|
نعم المطية للفتـى الآثـار |
لا تغفلنَّ عن الحديث وأهله |
|
فالرأيُ ليلٌ، والحديثُ نهارُ |
ولَرُبَّما غلط الفتى إِثْرَ الهدى |
|
والشمسُ بازغةٌ لها أنـوارُ |
عبيد الله بن محمد بن الحسين الفراء، أبو القاسم بن القاضي أبي يعلى:
ذكره أخوه في الطبقات، وأنه ولد يوم
السبت سابع شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، وقرأ بالروايات على أبي بكر الخياط،
وابن البناء، وأبي الخطاب الصوفي، وأحمد بن الحسن اللحياني، وغيرهم. وسمع الحديث
من والده، وجده لأمه جابر بن ياسين، وأبي محمد الجوهري، وغيرهم، وابن المهتدي وابن
النَقُور، وابن الآبنوسي، وابن المسلمة، وابن المأمون، والصَرِيفيني، وغيرهم، ورحل
في طلب الحديث والعلم إلى: واسط، والبصرة، والكوفة، وعكبرا، والموصل، والجزيرة، وآمد،
وغير ذلك.
وقرأ بِآمد من الفقه على أبي الحسن البغدادي قطعة صالحة من الخلاف والمذهب. وكان
قد علق قبل سفره على الشريف أبي جعفر، وكان قد حضر قبل ذلك عرس والده وعلق عنه.
وكان يحضر مجلس النظر في الجُمَع وغيرها، ويتكلم في المسائل مع شيوخ عصره. وكان
والده يأتم به في صلاة التراويح إلى أن تُوفي. وكان أكبر ولد القاضي أبي يعلى، وهو
الذي تولى الصلاة عليه بجامع المنصور. وكان ذا عفة، وديانة وصيانة، حَسَن التلاوة
للقرآن، كثير الدرس له، مع معرفته بعلومه. وله معرفة بالجرح والتعديل، وأسماء
الرجال والكنى، وغير ذلك من علوم الحديث، حسن القراءة، وله خط حسن.
ولما وقعت فتنة ابن القشيري: خرج إلى مكة، فتوفي في مضيه إليها بموضع يُعرف بمعدن
النقِرة، أواخر ذي القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة، وله ست وعشرون سنة وثلاثة أشهر
ونيف وعشرون يومًا تقريبًا. رحمه الله وعوضه الجنة.
محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن بن علي بن الحسين بن هارون، أبو الحسن البَرَداني الفرضي الأمين:
والد الحافظ أبي علي، الآتي ذكره إن
شاء الله تعالى.
وُلد بالبردان سنة ثمان وثمانين- وقيل: سنة ثمان وسبعين- وثلاثمائة. ونشأ بها ثم
انتقل إلى بغداد سنة ست وأربعين وأربعمائة واستوطنها. وسمع الكثير من أبي الحسن بن
رزقويه، وأبي الحسين بن بشران، وأخيه أبي القاسم، وأبي الفضل التميمي، وأخيه أبي
الفرج، وأبي الحسن بن مخلد، وأبي علي بن شاذان، البرقاني، وخلق.
وروى عنه ولداه: أبو علي، وأبو ياسر، والقاضي أبو بكر بن عبد الباقي وغير هم.
قال القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى:
صحب الوالد، وتردد إلى مجالسه في الفقه وسماع الحديث، وكان رجلاً صالحًا.
قال ابن النجار: وكان رجلاً صالحًا صدوقًا، حافظًا لكتاب الله تعالى، عالمًا
بالفرائض وقسمة التركات. كتب بخطه الكثير، وخَرَّج تخاريج، وجمع فنونًا من
الأحاديث وغيرها. وخطه رديء كثير السقم. وكان أَمين القاضي أبي الحسين بن المهتدي.
ثم ذكر عن ابنه أبي ياسر عبد اللّه: أن أباه أبا الحسن سرد الصوم ثلاثين سنة.
وذكر عن السلفي: أنه جرى ذكر ابنه أبي علي، فقال الحافظ أبو محمد السمرقندي: لو
رأيت أباه وصلاحه لرأيت العجب. روى لنا عن ابن رزقويه وطبقته. وكان فقيهًا، وضيئًا
محدثًا، مرضيًا.
وذكر عن ابن خيرون: أن البرداني كان رجلاً صالحًا ثقة.
وقال ابن الجوزي: كان له علم بالقراءات والفرائض. وكان ثقة، عالمًا صالحًا أمينًا.
توفي يوم الخميس ثامن عشرين في القعدة سنة تسع وستين وأربعمائة. ودفن يوم الجمعة
بباب حرب. كذا ذكره ابن النجار.
وذكر ابن شافع: أنه توفي ليلة الجمعة تاسع عشرين ذي القعدة ثم قال: قرأت بخط ابنه
أبي علي: أن أباه توفي يوم الخميس مستهل ذي الحجة من السنة، قال: وصليتُ عليه يوم
الجمعة في المقصورة. وتبعه خلق عظيم. رحمه اللّه تعالى قلتُ: له كتاب "فضيلة
الذكر والدعاء" رواه عنه ابنه أبو علي.
أخبرنا محمد بن إسماعيل الأيوبي الصوفي- بالقاهرة- أخبرنا عبد العزيز بن عبد
المنعم الحراني أخبرنا أبو علي الحريف أخبرنا القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي
أخبرنا أبو الحسن البرداني أخبرنا أبو الحسن بن مخلد أخبرنا إسماعيل الصفار حدثنا
الحسن بن عرفة حدثنا المعتمر بن سليمان: سمعتُ عاصمًا الأحول يقول: حدثني شرحبيل
أنه سمعَ أبا سعيد، وأبا هريرة، وابن عمر يُحدّثون أن نبي الله صلى الله عليه وسلم
قال: "الذَهَبُ بالذهَبِ وَزْنًا بوزنٍ، مِثلاً بمثل. مَن زاد أو ازداد فقد
أربى".
وأنبأناه عاليًا أبو الفتح الميدومي أخبرنا عبد اللطيف بن عبد اللطيف بن عبد
المنعم الحراني أخبرنا أبو الفرج بن كليب أخبرنا أبو القاسم بن بيان أخبرنا ابن
مخلد- فذكره.
عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد اللّه بن معبد بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي العباسي:
و "أبو موسى" هو
كنية جده الأعلى: عيسى بن أحمد بن موسى.
هذا هو الصحيحُ في نسبه. وهو الذي ذكره صاحباه القاضيان: أبو بكر الأنصاري، وأبو
الحسين بن القاضي، وابن الجوزي، وابن السمعاني، وغيرهم. فإن الشريف أبا جعفر هو
ابن أخ الشريف أبي علي محمد بن أحمد بن محمد بن عيسى بن أحمد بن موسى صاحب
"الإرشاد".
ووقع في تاريخ ابن شافع وغيره: عبد الخالق بن أحمد بن عيسى بن أبي موسى عيسى بن
أحمد، وهو وهَمٌ.
ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
قال ابن الجوزي: كان عالمًا فقيهًا، ورعًا عابدًا، زاهداً، قوالاً بالحق، لا
يحابي، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
سمع أبا القاسم بن بشران، أبا محمد الخلال، وأبا إسحاق البرمكي، وأبا طالب
العُشاري، وغيرهم.
وتفقه على القاضي أبي يعلى، وشهد عند أبي عبد الله الدامَغَاني، ثم ترك الشهادة
قبل وفاته. ولم يزل يدرس بمسجده بسكة الخرقي من باب البصرة وبجامع المنصور. ثم
انتقل إلى الجانب الشرقي، فدرس في مسجدٍ مقابل لدار الخلافة، ثم انتقل- لأجل ما
لحق نهر المعلّى من الغرق- إلى باب الطاق، وسكن عرب الديوان من الرُّصَافة، ودرس بمسجد
على باب الدرب، وبجامع المهدي.
وذكر القاضي أبو الحسين نحو ذلك، وقال: بَدَأَ بِدَرسِ الفقه على الوالد من سنة
ثمان وعشرين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسين، يقصد إلى مجلسه ويعلق، ويعيد الدَّرس
في الفروع وأصول الفقه. وبرع في المذهب، ودَرَّس، وأفتى في حياة الوالد.
وكان مختصر الكلام، مليح التَّدريس، جيد الكلام في المناظرة، عالمًا بالفرائضِ،
وأحكام القراَن والأصول. وكان له مجلسٌ للنظر في كل يوم اثنين ويقصده جماعة من
فقهاء المخالفين. وكان شديد القول واللسان على أهل البدع ولم تزل كلمته عالية
عليهم، ولا يَردُّ يَده عنهم أحد. وانتهى إليه في وَقتهِ الرحلة لطلب مذهب الإمام
أحمد. وذكره ابن السمعاني فقال: إمام الحنابلة في عصره بلا مدافعة. مليح التدريس،
حسن الكلام في المناظرة، ورع زاهد، متقن عالم بأحكام القرآن والفرائض، مَرْضِي
الطريقة. ثم ذكر بعضَ شيوخه، وقال: روى لنا عنه أبو بكر محمد بن عبد الباقي
البزار، ولم يحدثنا عنه غيره.
وقال ابن خيرون: مُقدم أهل زَمانه شرفًا، وعلمًا وزهدًا.
وقال ابن عَقيل: كان يفوق الجماعة من أهل مذهبه وغيرهم في علم الفرائض.
وكان عند الإمام- يعني الخليفة- معظمًا حتى إنه وَصَّى عند مَوته بأن يغسله، تبركًا
به. وكان حول الخليفة ما لو كان غيره لأخذه. وكان ذلك كفايةَ عُمره فوالله ما
التفتَ إلى شيء منه، بل خرج ونَسِيَ مئزره حتى حُمل إليه. قال: ولم يُشهد منه أنه
شرب ماء في حلقة على شدة الحر، ولا غمس يده في طعام أحدٍ من أبناء الدنيا.
قلتُ: وللشريف أبي جعفر تصانيفُ عِدة، منها "رؤوس المسائل" وهي مشهورة،
ومنها "شرح المذهب" وصل فيه إلى أثناء الصَّلاة، وسلك فيه مسلك القاضي
في الجامع الكبير. وله جزء في أدب الفقه، وبعض فضائل أحمد، وترجيح مذهبه. قد تفقه
عليه طائفةٌ من أكابر المذهَب، كالحلواني، وابن المُخَرَّمِي، والقاضي أبي الحسين.
وكان معظمًا عند الخاصة والعامة، زاهداً في الدنيا إلى الغاية، قائمًا في إنكار
المنكرات بيده ولسانه، مجتهدًا في ذلك.
قال أبو الحسين، وابن الجوزي: لما احْتُضِر القاضي أبو يعلى أوصى أن يُغَسله
الشريف أبو جعفر، فلما احتضر القائم بأمر اللّه قال: يغسلني عبد الخالق، ففعل، ولم
يأخذ مما هُناك شيئًا. فقيل له: قد وصى لك أميرُ المؤمنين بأشياء كثيرة، فأبى أن
يأخذَ. فقيل له: فقميص أمير المؤمنين تتبرك به فأخذ فوطة نفسه، فنشفه بها، وقال:
قد لَحِقَ هذه الفوطَة بركةُ أميرِ المؤمنين. ثم استدعاه في مكانه المقتدي، فبايعه
منفردًا. قال: وكان أولَ من بايع، وقال الشريف: لما بايعتُهُ أنشدتُهُ:
إذَا سَيّدٌ مِنا مَضَى قَام سَيِّدٌ |
ثم أُرتِجَ عليَّ تمامه، فقال هو:
قَؤولٌ لما قَالَ الكِرَامُ فَعولُ |
قال: وأنبأنا ابن عبد اللّه
عن أبي محمد التميمي قال: ما حسدتُ أحدًا إلاَّ الشريف أبا جعفر، في ذلك اليوم،
وقد نلتُ مرتبة التدريس والتذكير والسفارة بين الملوك، ورواية الأحاديث، والمنزلة
اللطيفة عند الخاص والعام. فلمَّا كان ذلك اليوم خرج الشريفُ علينا، وقد غسل
القائم عن وصيته بذلك. ثم لم يقبل شيئًا من الدنيا، ثم انسل طالبًا لمسجده، ونحنُ
كلٌّ منا جالسٌ على الأرض متَحَفٍّ، متغيرٌ لونُه، مخرقٌ لثوبه، يهوله ما يَحدث به
بعد مَوت هذا الرجل على قدر ما له تعلق بهم، فعرفت أن الرجل هو ذلك.
قال القاضي أبو الحسين- أي ابن أبي يعلى-: قلتُ له- أي قلتُ لعبد الخالق- بعد
اجتماعه معه: أينَ سهمنا مما كان هناك. فقال: أحْيَيْتُ جَمَالَ شيخنا والدك
الإمام أبي يعلى. يُقال: هذا غلامُهُ، تنزه عن هذا القدر الكثير، فكيف لو كان هو?
وفي سنة أربع وستين وأربعمائة: اجتمع الشريف أبو جعفر ومعه الحنابلة في جامع
القصر، وأدخلوا معهم أبا إسحاق الشيرازي وأصحابه. وطلبوا من الدولة قلع المواخير،
وتتبع المفسدين والمفسدات، ومنْ يبيعُ النبيذ، وضربَ دراهم تقع بها المعاملة عوض
القراضة. فتقدم الخلفية بذلك. فهرب المفسدات، وكُبِسَت الدور، وأريقت الأنبذة.
ووعدوا بقلع المواخير، ومكاتبة عضد الدولة برفعها، والتقدم بضرب الدراهم التي يتعامل
بها. فلم يقنع الشريف ولاأبو إسحاق بهذا الوعد. وبقي الشريف مدة طويلة متعتبًا
مهاجرًا لهم.
وحكى أبو المعالي صالح بن شافع عمن حدَّثه: أن الشريف رأى محمدًا وكيل الخليفة حين
غرقت بغداد سنة ست وستين، وجرى على دار الخلافة العجائب، وهم في غاية التخبط. فقال
الشريف أبو جعفر: يا محمد، يا محمد، فقال له: لبيك يا سيدنا، فقال له: قل له:
كتبنا وكتبتم، وجاء جوابنا قبل، جوابكَم، يشير إلى قول الخليفة: سنكاتب في رفع
المواخير، ويريد بجوابه: الغرق وما جرى فيه.
وفي سنة ستين وأربعمائة كان أبو علي بن
الوليد- شيخ المعتزلة- قد عزم على إظهار مذهبه لأجل موت الشيخ الأجل أبي منصور بن
يوسف، فقام الشريف أبو جعفر، وعبر إلى جامع المنصور، هو وأهل مذهبه، وسائر الفقهاء
وأعيان أهل الحديث، وبلغوا ذلك. ففرح أهل السنة بذلك، وقرأوا كتاب التوحيد لابن
خزيمة. ثم حضروا الديوان، وسألوا إخراج الاعتقاد الذي جمعه الخليفة القادر.
فأجيبوا إلى ذلك. وقرىء هناك بمحضر من الجميع، واتفقوا على لعن من خالفه وتكفيره.
وبالغ ابن فَورك في ذلك.
ثم سأل الشريف أبو جعفر، والزاهد الصحراوي: أن يسلم إليهم الاعتقاد، فقال لهم
الوزير: ليس ههنا نسخة غير هذه. ونحن نكتب لكم به نسخة لتقرأ في المجالس. فقالوا:
هكذا فعلنا في أيام القادر، قرىء في المساجد والجوامع. فقال: هكذا تفعلون، فليس
اعتقاد غير هذا، وانصرفوا. ثم قرىء بعد ذلك الاعتقاد بباب البصرة، وحضره الخاص
والعام.
وكذلك أنكر الشريف أبو جعفر على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وغيره، فاختفى مدة
ثم تاب وأظهر توبته. وسنذكر مضمون ذلك في ترجمة ابن عقيل، إن شاء الله تعالى.
وآخر ذلك كله: فتنة ابن القشيري، قام فيها الشريف قيامًا كليًا، ومات في عقبها.
ومضمون ذلك: أن أبا نصر بن القشيري ورد بغداد، سنة تسع وستين وأربعمائة، وجلس في
النظامية. وأخذ يذم الحنابلة، وينسبهم إلى التجسيم. وكان المتعصب له أبو سعد
الصوفي، ومال إلى نصره أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك الوزير يشكو
الحنابلة، ويسأله المعونة. فاتفق جماعة من أتباعه على الهجوم على الشريف أبي جعفر
في مسجده، والإيقاع به، فرتب الشريف جماعة أعدهم لرد خصومه إن وقعت. فلما وصل
أولئك إلى باب المسجد رماهم هؤلاء بالآجر. فوقعت الفتنة، وقتل من أولئك رجل من
العامة، وجرح آخرون، وأخذت ثياب.
وأغلق أتباع بن القشيري أبواب سوق مدرسة النظام، وصاحوا: المستنصر بالله، يا
منصور- يعنون العُبَيدي صاحب مصر- وقصدوا بذلك التشنيع على الخليفة العباسي، وأنه
ممالىء للحنابلة، لا سيما والشريف أبو جعفر ابن عمه.
وغصب أبو إسحاق، وأظهر التأهب للسفر. وكاتب فقهاءُ الشافعية نظام الملك بما جرى،
فورد كتابه بالامتعاض من ذلك، والغَضَب لتسلط الحنابلة على الطائفة الأخرى. وكان
الخليفة يخاف من السلطان ووزيره نظام الملك ويداريهما.
وحكى أبو المعالي صالح بن شافع، عن شيخه أبي الفتح الحلواني وغيره، ممن شاهد
الحال: أن الخليفة لما خاف من تشنيع الشافعية عليه عند النظام أمر الوزير أن يجيل
الفكر فيما تنحسم به الفتنة. فاستدعى الشريف أبا جعفر بجماعة من الرؤساء منهم ابن
جردة، فتلطفوا به حتى حضر في الليل، وحضر أبو إسحاق، وأبو سعد الصوفي، وأبو صر بن
القشيري. فلما حضر الشريف عظَّمه الوزير ورفعه، وقال: إن أمير المؤمنين ساءه ما
جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم، وهؤلاء يصالحونك على ما تريد، وأَمَرهم
بالدنوّ من الشريف. فقام إليه أبو إسحاق، وكان يتردد في أيام المناظرة إلى مسجده
بدرب المطبخ، فقال: أنا ذاك الذي تعرف، وهذه كتبي في أصول الفقه، أقول فيها:
خلافًا للأشعرية، ثم قبل رأسه.
فقال له الشريف: قد كان ما تقول، إلاَ أنك لما كنت فقيرَاً لم تُظهِر لنا ما في
نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان خواجا بُزُرْك- يعني النظام- أبديتَ ما كان
مخفيًا.
ثم قام أبو سعد الصوفي، فقبّل يد الشريف، وتَلطف به، فالتفت مغضباً وقال: أيها
الشيخ، إنّ الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأَما أنت: فصاحبُ
لهو وسَماع وتعبير ممَنْ، زاحمك على ذلك حتى داخلتَ المتكلمين والفقهاء، فأقمتَ
سوق التعصب.
ثم قام ابن القشيري- وكان أقلَّهُم
احترامًا للشريف- فقال الشريف: من هذا. فقيل: أبو نصر بن القشيري، فقال لو جاز: أن
يشكر أحد على بدعته لكان هِذا الشاب لأنه باد هنا بما في نفسه، ولم ينافقنا كما
فعل هذان. ثم التفت إلى الوزير فقال: أي صلح يكون بيننا. إنما يكون الصلح بين
مختصمين على ولاية، أو دنيا، أو تنازع في ملك. فأما هؤلاء القوم: فإنهم يزعمون
أنَّا كفار، نحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كان كافراً، فأيُّ صلح بيننا. وهذا
الإمام يصدع المسلمين، وقد كان جدَاه- القائم والقادر- أَخرجا اعتقادهما للناس،
وقرىء عليهم في دواوينهم، وحمله عنهم الخراسانيون والحجيج إلى أطراف الأرض، ونحن
على اعتقادهما.
وأنهى الوزير إلى الخليفة ما جرى، فخرج في الجواب: عرف ما أنهيته من حضور ابن
العم- كَثر اللّهُ في الأولياء مثلَه- وحضور من حضر من أهل العلم. والحمد لله الذي
جمع الكلمة، وضم الألفة، فليؤذن للجماعة في الانصراف، وليقل لابن أبي موسى: إنه قد
أفرد له موضع قريبٌ من الخدمة ليراجَع في كثير من الأمور المهمة، وليتبرك بمكانه.
فلما سمع الشريف هذا قال: فعلتموها.
فحُمل إلى موضع أفرد له بدار الخلافة. وكان الناس يدخلون عليه مدة مديدة. ثم قيل
له: قد كثر استطراق الناس دار الخلافة، فاقتصر على من تُعين دْخوله، فقال: ما لي
غرض في دخول أحد عليّ. فامتنع الناس.
ثم إن الشريف مرض مرضًا أثر في رجليه فانتفختا. فيقال: إن بعض المتفقِّهة من
الأعداء ترك له في مداسه سمًا. والله تعالى أعلم.
ثم إن أبا نصر بن القشيري أُخرج من بغداد، وأُمر بملازمة بلده لقطع الفتنة وذلك
نفي في الحقيقة.
قال ابن النجار: كوتب نظام الملك الوزير بأن يأمره بالرجوع إلى وطنه، وقطع هذه
الثائرة، فبعث واستحضره، وأَمرَه بلزوم وطنه، فأقام به إلى حين وفاته.
قال القاضي أبو الحسين: أخذ الشريف أبو جعفر في فتنة أبي نصر بن القشيري، وحُبِس
أياماً، فسَردَ الصوم ما أكل لأحد شيئاً.
قال: ودخلتُ عليه في تلك الأيام ورأيتُه يقرأ في المصحف، فقال لي: قال الله تعالى:
"وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَاَلصَّلاَةِ" البقرة: 45، تدري ما الصبر?
قلت: لا، قال: هو الصوم. ولم يفطر إلى أن بلغ منه المرض، وضج الناس من حبسه.
وأُخرج إلى الحريم الطاهري بالجانب الغربي فمات هناك.
وذكر ابن الجوزي: أنه لما اشتد مرضه، تحامل بين اثنين، ومضى إلى باب الحجرة، فقال:
جاء الموت، ودنا الوقت، ما أحبُّ أن أموتَ إلا في بيتي بين أهلي فأذن له. فمضى إلى
بيت أخته بالحريم.
قال: وقرأتُ بخط أبي علي بن البناء قال: جاءتْ رقعة بخط الشريف أبي جعفر، ووصيته
إلى أبي عبد الله بن جردة فكتبها. وهذه نسختها: "ما لي- يشهد اللّه- سوى
الحبل والدلو، وشيء يخفى عَليَ لا قدر له. والشيخ أبو عيد الله، إن راعاكم بعدي،
وإلاََّ فالله لكم. قال الله عز وجل: "وَلْيَخْشَ الّذينَ لَوْ تَركوُا مِنْ
خَلْفِهِم ذُرِّية ضِعافًا خَافُوا عَلَيهِمْ فَليتقُوا اللّه" ومذهبي:
الكتابُ، والسنة، وإجماع الأمة، وما عليه أحمد، ومالك والشافعي، وغيرهم ممن يكثر
ذكرهم، والصلاة: بجامع المنصور إن سهل الله تعالى ذلك عليهم. ولا يعقد لي عزاء،
ولا يشق عليَّ جيب، ولا يُلطم خد. فمن فعل ذلك فالله حسيبه". وتُوفي رحمه
الله تعالى ليلة الخميس سحرًا، خامس عشر صفر سنة سبعين وأربعمائة، وغسله أبو سعيد
البرداني، وابن الفتى بوصية منه، وكانا قد خدماه طول مرضه.
وصُلي عليه يوم الجمعة ضحى بجامع المنصور، وأمَّ الناس أخوه الشريف أبو الفضل
محمد. ولم يَسع الجامع الخلق وانضغطوا، ولم يتهيأ لكثير منهم الصلاة، ولم يبقَ
رئيس ولا مرؤوس من أرباب الدولة وغيرهم إلا حضره إلا من شاء الله، وازدحم الناسُ
على حَمْله. وكان يومًا مشهودًا بكثرة الخلق. وعظم البكاء الحزن. وكانت العامة
تقول: ترحَّموا على الشريف الشهيد، القتيل المسموم لما ذكر من أن بعض المبتدعة:
ألقى في مداسه سمًا. ودفن إلى جانب الإمام أحمد.
قال ابن السمعاني: سمعت أبا يعلى بن
أبي حازم بن أبي يعلى بن الفراء الفقيه الحنبلي- يوم خرجنا إلى الصلاة على شيخنا
أبي بكر بن عبد الباقي، ورأى ازدحام العوام، وتزاحمهم لحمل الجنازة- فقال أبو
يعلى: العوام فيهم جهل عظيم. سمعتُ أنه في اليوم الذي مات فيه الشريف أبو جعفر
حملوه ودفنوه في قبر الإمام أحمد، وما قدر أحد أن يقول لهم: لا تنبشوا قبر الإمام
أحمد، وادفنوه بجنبه. فقال أبو محمد التميمي - من بين الجماعة- كيف تدفنونه في قبر
الإمام أحمد بن حنبل وبنت أحمد مدفونة معه في القبر. فإن جاز دفنه مع الإمام لا
يجوز دفنه مع ابنته. فقال بعض العوام: اسكتْ، فقد زوجنا بنت أحمد من الشريف، فسكت
التميمي، وقال: ليس هذا يوم كلام.
ولزم الناس قبره، فكانوا يبيتون عنده كل ليلة أربعاء، ويختمون الختمات، ويخرج
المتعيشون، فيبيعون الفواكه والمأكولات، فصار ذلك فرجة للناس. ولم يزالوا على ذلك
مدة شهور، حتى دخل الشتاء ومنعهم البرد. فيقال إنه: قرىء على قبره في تلك المدة
عشرة آلاف ختمة.
ورآه بعضهم في المنام، فقال له: ما فعل الله بك? قال: لما وضعتُ في قبري رأيتُ قبة
من درة بيضاء لها ثلاثة أبواب، وقائل يقول: هذه لك، أُدخل من أي أبوابها شئت.
ورآه آخر في المنام، فقال: ما فعل الله بك. قال: التقيتُ بأحمد بن حنبل فقال لي:
يا أبا جعفر، لقد جاهدتَ في اللّه حق جهاده، وقد أعطاك الله الرضى رضي الله عنه.
وقع لي جملة من حديث الشريف أبي جعفر بالسماع، فمنها: ما أخبرنا به أبو عبد الله
محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الصوفي- بالقاهرة- أخبرنا أبو العز عبد العزيز بن
عبد المنعم الحراني أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم بن الحريف أخبرنا القاضي أبو بكر
محمد بن عبد الباقي البزار أخبرنا أستاذي أبو جعفر عبد الخالق بن عيسى الهاشمي-
بقراءتي عليه- قلت له: حدثكم أبو القاسم عبد الملك بن محمد بن بشران أخبرنا أبو
علي محمد بن أحمد بن الصواف حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي، حدثنا يزيد
بن هارون وأبو عبد الرحمن قالا: أخبرنا المسعودي عن محمد بن عبد الرحمن مولى أبي
طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يلجُ النار أحدٌ بكى مِن خشية الله، حتى يعودَ اللبنُ في الضرع، ولا يجتمع غُبارٌ
في سبيل الله ودخان جهنم في منخري امرىءٍ أبدًا".
وقرأت بخط ابن عقيل في الفنون قال: مما استَحسنتُه من فقه الشريف الإمام الزاهد
أبي جعفر عبد الخالق بن عيسى بن أبي موسى الهاشمي رضي الله عنه وتدقيقه -وإن كان
أكثر من أن يُحصى-: ما قاله في أوائل قدوم الغزالي بغداد، وجعلوا يأخذون من أموال
الناس في الطرقات، وتقصر أيدي العوام عنهم، فقال: الذي نسبه من مذهب أبي حنيفة: أن
تجري عليهم أحكام قطاع الطريق، وإن كان ذلك في الحضر. لأنهم عللوا بأن في الحضر
يلحق الغوث، فلا يكون لهم حكم قطاع الطريق في الصحارى والبراري. وهذا التعليل
موجود في الحضرة لأنه لا مغيث يغيث منهم، لقوتهم واستطالتهم على العوام.
قلت: هذا قريب من قول القاضي أبي يعلى. إن أصحابنا اختلفوا في المحاربين في الحضر:
هل تجري عليهم أحكام المحاربين? فظاهر كلام الخرقي: أنها لا تجري عليهم. وقال أبو
بكر: بل أحكام المحاربين جارية عليهم. وفَضَل القاضي بين أن يفعلوا ذلك في حَضَر
يلحق فيه الغوث عادة أو لا. فإن كان يلحق فيه الغوث عادة: فليسوا بمحاربين، وإلا
فهم محاربون. ومعلوم أن السلطان إذا امتنع من دفعهم- إمّا ضعفه وعجزه، وإما لكونه
ظالمًا يسلط أعوانه على الظلم- تعذّر لحوق الغوث مع ذلك عادة. فيثبت لهم- على
قوله- أحكام المحاربين والله أعلم.
ونقلت من بعض تعاليق الإمام أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه اللّه. مما نقله من
الفنون لابن عقيل: حادثة رجل حلف على زوجته بالطلاق الثلاث: لا فعلتِ كذا، فمضى
على ذلك مدة، ثم قالت: قد كنتُ فعلتُه. هل تصدق مع تكذيب الزوج لها. أجاب الشريف
الإمام أبو جعفر بن أبي موسى: تُصَدَّق ولا ينفعه تكذيبه. وأجاب الشيخ الإمام أبو
محمد: لا تصدق عليه، والنكاح بحاله.
قلتُ: أبو محمد: أظنه التميمي. ومن الفنون أيضًا: مسألة، إذا وجد على ثوبه ماء
واشتبه عليه: أمَذْيٌ أم مني? إن قلتم: يجب حمله على أقل الأحوال، من كونه مَذيًا،
لأن الأصل سقوط غسل البدن: أوجبتم غسل الثوب. لأن المذي نجس، والأصل سقوط غسل
الثوب متقابلاً. فقال الشريف أبو جعفر بن أبي موسى رضي الله عنه: لا يجب غسل الثوب
ولا البدن جميعًا، لتردد الأمر فيهما. وأوجب غسل أربعة الأعضاء. لأن الخارج- أيَّ
خارج كان- يوجب غسل الأعضاء.
وقد ذكر هذه المسألة ابن تميم في كتابه، من الفنون، وعزاها إلى ابن أبي موسى،
فربما توهم السامع أنه ابن أبي موسى صاحب الإرشاد، وليس كذاك.
وهذه المسألة تشبه مسألة الرجلين إذا وجدا على فراشهما منيًّا ولم يعلما مَنْ خرج
منه، أو سمعا صوتًا ولم يعلما صاحبه. وفي وجوب الغسل والوضوء عليهما روايتان لكن
أرجحهما لا يجب. وعلى القول بانتفاء الوجوب، فقالوا: لا يَأتَّمُ أحدهما بصاحبه،
ولا يُصافُّه وحده، لأنه يظهر حكم الحدث المتيقن باجتماعهما، ويعلم أن صلاة أحدهما
باطلة. فتبطل الجماعة والمصافَّة.
ونظير هذا: ما قلنا في المختلفين في جهة القبلة: إنه لا يأتْمُ أحدهما بصاحبه فإنه
يتيقن باجتماعهما في الصلاة خطأ أحدهما في القبلة، فتبطل جماعتهما.
وكذلك ما ذكره أكثر الأصحاب: في رجلين علّق كل منهما عتق عبده على شرط، ووُجد أحد
الشرطين يقينًا، ولا يعلم عينه أنه لا يحكم بعتق عبد واحدٍ منهما، ويستصحب أصل
ملكه. فإن اشترى أحدهما عبد الآخر: أخرج المعتق منهما بالقرعة على الصحيح أيضًا.
فكذلك يقال ههنا: يستصحب أصل طهارهّ الثوب والبدن من النجاسة والجنابة، ولكن ليس
له أن يصلي بحاله في الثوب كأنَّا نتيقن بذلك حصول المفسد لصلاحيته، وهو إما
الجنابة وإما النجاسة.
ومن غرائب الشريف: ما نقله عنه ابن تميم في كتابه: أن المتوضىء إذا نوى غسل
النجاسة مع الحدث: لم يجزه، وأن طهارة المستحاضة لا ترفع الحدث.
وذكر الشريف في رؤوس مسائله: أن القدر المجزِىء مسحه من الخفين: ثلاثة أصابع، وأن
أحمد رجع إلى ذلك في مسح الخف ومسح الرأس. قال: كان شيخنا ينصر أولاً مسح الأكثر،
ثم رأيته ماثلاً إلى هذا. وهذا غريب جداً.
عبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم بن الوليد بن مَنْدَه بن بطة بن أسْتَنْدَار- واسمه الفيرزان- بن جهَارْبَخت، العبدي الأصبهاني الإمام الحافظ، أبو القاسم ابن الحافظ الكبير أبي عبد الله بن مَنْده
ومنْدَه لقب إبراهيم جده الأعلى: ذكره
أبو الحسين، وابن الجوزي في طبقات الأصحاب في آخر المناقب.
وترجمه بن الجوزي في تاريخه، فقال: وُلد سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
وسمع أباه وأبا بكر بن مَردويه، وخلقًا كثيرًا. وكان كثير السماع، كبير الشأن،
سافر في البلاد، وصنف التصانيف، وخرٌج التخاريج. وكان ذا وقار وسَمت وأتباع فيهم
كثرة. وكان متمسكاً بالسنة، مُعرضًا عن أهل البدع، اَمراً بالمعروف، ناهياً عن
المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم.
وكان سعيد بن محمد الزنجاني يقول: حفظ الله الإسلام برَجُلين، أحدهما بأصبهان،
والآخر بهرَاة: عبد الرحمن بن منده، وعبد الله الأنصاري.
وقال ابن السمعاني: كان كبير الشأن، جليل القدر، كثير السماع، واسع الرواية.
سافر إلى الحجاز وبغداد وهمَذان، وخراسان، وصنف التصانيف.
وقال القاضي أبو الحسين: لم يكن في عصره وبلده مثله في ورعه وزهده وصيانته، حاله
أظهر من ذلك. وكانت بينه وبين الوالد السعيد مكاتبات.
وقال غيره: سمع أبو القاسم من أبيه، وإبراهيم بن خرشيد قوله، وإبراهيم بن محمد
الجلاب، وأبي جعفر بن المرزبان، وأبي ذر بن الطبراني، وخلق بأصبهان، ومن أبي عمر
بن مهدي، هلال الحفار، وغيرهما ببغداد، من ابن خزيمة الواسطي بها، ومن ابن جهضم
بمكة، ومن أبي بكر الحيري، وأبي سعيد الصَيرفي بنيسابور، لكنه لم يروِ عن الحيري
كما فعل الأنصاري، أجاز له زاهر السَّرخسي، وتفرد بذلك، ومحمد بن عبد الله
الجوزقي، وعبد الرحمن بن أبي شريح.
وقال أبو عبد الله الدقاقّ الحافظ: فضائل ابن منده ومناقبه كثر من أن تعد- إلى أن
قال: ومَنْ أنا لنشر فضله? كان صاحب خُلق وفتوة، وسخاء وبهاء، والإجازة كانت عنده
قوية، وله تصانيف كثيِرة، ورُدُودٌ جَمَّة على المبتدعين والمنحرفِين في الصفات
وغيرها.
قال: وكان جذعًا في أعين المخالفين، لا
يخاف في الله لومة لائم- إلى أن قال: ووصفه أكثر من أن يُحصى.
وقال يحيى بن منده كان عمي سيفًا على أهل البدع، وهو أكبر من أن يثني عليه مثلي،
كان والله آمرًا بالمعروف، ناهياً عن المنكر، وفي الغدوّ والآصال ذاكرًا، ولنفسه
في المصالح قاهرًا، أعقب اللهُ مَن ذكره بالشرِّ الندامة. وكان عظيم الحلم كثير
العلم، قرأتُ عليه قول شُعبة: "من كتبتُ عنه حديثاً فأنا له عبد" فقال:
"من كتب عني حديثًا فأنا له عبدٌ".
قلتُ: قد ذكر عن شيخ الإسلام الأنصاري أنه قال: كانت مضرته في الإسلام أكثر من
منفعته. وعن إسماعيل التيمي أنه قال: خالفَ أباه في مسائل، وأعرض عنه مشايخ الوقت،
وَما تركني أبي أسمع منه. وكان أخوه خيرًا منه.
وهذا ليس بقادح- إن صح- فإن الأنصاري والتيمي وأَمثالهما يقدحون بأدنى شيء ينكرونه
من مواضع النزاع، كما هجر التيميُّ عبدَ الجليل الحافظَ كُوباه على قوله:
"ينزل بالذات" وهو في الحقيقة يُوافقه على اعتقاده، لكن أنكر إطلاقَ
اللفظ لعدم الأثر به.
قال ابن السمعاني: سمعتُ الحسين بن عبد الملك يقول: سمعتُ عبد الرحمن بن منده
يقول: قد تعجبتٌ من حالي مع الأقربين والأبعدين، فإني وَجَدتُ بالآَفاق التي
قصدتها أكثر من لقيتُه بها- موافقًا كان أو مخالفًا- دعاني إلى مساعدته على ما
يقوله، وتصديق قولي، والشهادة له في فعله على قبولٍ ورضى. فإن كنت صَدَّقته: سماني
مُوافقًا، وإن وقفت في حَرْفي من قوله، أو في شيء من فعله: سماني مخالفاً- وإن
ذكرتُ في واحدٍ منهما أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك: سماني خارجياً. وإن روَيتُ
حديثًا في التوحيد: سماني مشبهًا. وإن كان في الرؤية: سماني سالميًا. وأنا متمسك
بالكتاب والسنة، مُتَبرىء إلى الله من التشبيه، والمثل والضد والند، والجسم
والأعضاء والآلات، ومن كل ما ينسب إليَّ ويُدَّعى عليّ، من أن أقول في اللّه تعالى
شيئًا من ذلك أو قلتُه، أو أراه، أو أتوهمه، أو أتخذه، أو أنتحله.
قال ابن السمعاني: وسمعتُ الحسن بن محمد بن الرضى العلوي يقول: سمعتُ خالي أبا
طالب بن طَباطبا يقول: كنتُ أَشتم أبدًا عبد الرحمن بن منده، فرأيتُ عمر رضي الله
عنه في المنام، ويده في يد رجل عليه جبة صوف زرقاء، وفي عينيه نكتة، فسلمتُ عليه،
فلم يردّ علي، وقال لي: لَم تشتم هذا إذا سمعتَ اسمه? فقيل لي: هذا أَمير المؤمنين
عمر رضي الله عنه، وهذا عبد الرحمن بن منده. فانتبهتُ، فأتيتُ أصبهان، وقصدتُ
الشيخ عبد الرحمن، فلما دخلتُ عليه صادفتُه على النعت الذي رأيتُ في المنام، وعليه
جبة زرقاء. فلما سلمتُ عليه قال: وعليك السلام يا أبا طالب، وقبلها ما رآني ولا
رأيتهُ، فقال قبل أن أنطق: شيء حرمه الله ورسوله يجوز لنا أن نُحِلّه? فقلت:
اجعلني في حلّ، وناشدتُه الله وَقَبّلتُ بين عينيه. فقال: جعلتك في حل مما يرجع
إلي.
حدَّث عن الحافظ أبي القاسم خلق كثير من الحفاظ، الأئمة، وغيرهم، مثل: ابن أخيه
يحيى بن عبد الوهاب، وأبي نصر الغازي، وأبي سعد البغدادي، والحسين الخلال، وأبي عبد
الله الدقاق، وأبي بكر الباغبان، وروى عنه بالإجازة مسعود الثقفي.
وله تصانيف كثيرة، منها: كتاب "حُزمَة الدين" وكتاب "الرد على
الجهمية" بين فيه بطلان ما روي عن الإمام أحمد في تفسير حديث "خَلَقَ
اللّهُ آدَمَ عَلَى صُورَته" بكلام حسن. وله كتاب "صيام يوم الشك".
وبأصبهان طائفة من أهل البدع ينتسبون إلى ابن منده هذا، وينسبون إليه أقوالاً في
الأصول والفروع، هو منها بريء.
منها: أن التيمم بالتراب يجوز مع القدرة على الماء.
ومنها: أن صلاة التراويح بدعة، وقد ردّ عليهم علماء أصبهان من أهل الفقه والحديث،
وبيّنوا أن ابن منده بريء مما نسبوه إليه من ذلك.
تُوفي في شوال سنة سبعين وأربعمائة بأصبهان، وشيَّعه خلق كثيرٌ لا يحصيهم إلاَّ
الله تعالى.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن
إبراهيم بمصر، أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو
الفرج عبد الرحمن بن علي الحافظ أخبرنا أبو سعد أحمد بن محمد البغدادي، أخبرنا أبو
القاسم عبد الرحمن بن أبي عبد الله بن منده، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن
المرزبان حدثنا محمد بن إبراهيم الحراني، حدثنا محمد بن سليمان لُوَين، حدثنا عبد
الحميد بن سليمان عن محمد بن عجلان عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ما من امرىء يتصدق بصدقة من كسب طيّب- ولا يقبل
الله إلاَّ طيبًا- حتى ولو بتمرة، إلاّ أخذها الله بيمينه، ثم رَبَّاها له كما
يُربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله، حتى يوافيه يوم القيامة مثل الجبل العظيم.
قرأتُ بخط الإمام أبي العباس أحمد بن تيمية رحمه الله: أن أبا القاسم بن منده كان
من الأصحاب، وكان يذهب إلى الجهر بالبسملة في الصلاة.
وذكر أيضًا في مسائله الماردانيات: أن طائفة من الأصحاب لم يذهبوا إلى صيام يوم
الغيم، منهم أبو القاسم بن منده.
وذكر أبر زكريا يحيى بن عبد الوهاب بن منده قال: قال عمي الإمام- يعني أبا القاسم
رحمه الله- علامة الرضا: إجابة الله تبارك وتعالى من حيث دعا بالكتاب والسنة.
وعلامة الورع: الخروج من الشبهات بالأخبار والآيات. وعلامة القناعة السكوت على
الكتاب والسنة في الوقوف عند الشبهة. وعلامة الإخلاص: زيادة السرّ على الإعلان في
إيثار قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم على الأقاويل كلها بالإيمان
والاحتساب. وعلامة الصبر: حبس النفس في استحكام الدرس بالكتاب والسنة. وعلامة
التسليم: الثقة باللّه الحكيم في قوله، والسكن إلى الله العليم بقول رسوله صلى
الله عليه وسلم في جميع الأشياء.
وقال أبو القاسم بن منده في كتاب "الرد على الجهمية": التأويلُ عند
أصحاب الحديث: نوع من التكذيب.
أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب الرزاز، المقرىء الزاهد، أبو بكر المعروف بابن حُمّدوه:
ذكره ابن الجوزي في الطبقات والتاريخ.
وُلد يوم الأربعاء لثماني عشرة خلت من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
وحدّث عن خلق كثير. منهم: أبو الحسين بن بشران، وابن الفوارس، وهو آخر من حدّث عن
أبي الحسين بن سَمْعُون. وتفقه على القاضي أبي يعلى، وكان ثقة، زاهدًا، متعبدًا،
حسن الطريقة.
وقال القاضي أبو الحسين: تفقه على الوالد مع الشريف أبي جعفر، وكانا يصطحبان إلى
المجلس. وكان كثير القراءة للقرآن والإقراء له، ختَّم خلقًا كثيرًا. وحدّث عنه
الخطيب في تاريخه. قال: وكان صدوقًا. وأبو الحسن بن مرزوق في مشيخته، وأبو القاسم
بن السمرقندي، والقاضي أبو الحسين في طبقات الأصحاب، وغيرهم.
تُوفي ليلة السبت رابع عشرين في الحجة سنة سبعين وأربعمائة. ودفن من الغد بباب
حرب.
قال السلفي: سألتُ أبا علي البرداني عن ابن حُمُّدُويه صاحب ابن سمعون فقال: هو
بضم الحاء وتشديد الميم وضمه أيضًا، يعني وبالياء.
ذكره ابن نقطة. قال: وغيره يقول بخلاف قوله. منهم من يقول: حُمَّدُوَه بضم الحاء،
وتشديد الميم وفتحها، بغير ياء بعد الواو.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بمصر- أخبرنا عبد اللطيف بن عبد المنعم
الحراني، أخبرنا عبد الوهاب بن علي الأمين، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي،
حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن حمدويه الرزاز، حدثنا أبو الحسين محمد بن
أحمد بن سمعون، حدثنا أحمد بن سليمان بن ريان، حدثنا هشام بن عمار، حدثنا عبد
الحميد بن حبيب بن أبي العشرين الأوزاعي، حدثنا الزهري، حدثني سالم عن ابن عمر أنه
حدَّثه "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تصدَّق على رجل بفرس له، ثم وَجَدها
تباع في السُوق، فأراد عمر أن يشتريها، فأتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فذكر
ذلك له، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا ترتد في صدقتك".
قال الزهري: فكان ابن عمر يصنع في صدقته إن رَدَّها عليه الميراث يومًا لا يَحبسُها
عنده.
?الحسن بن أحمد بن عبد اللّه بن البناء البغدادي، الإمام، أبو علي المقرىء
المحدِّث الفقيه الواعظ، صاحب التصانيف: ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
وقرأ القراءات السبع على أبي الحسن
الحمامي وغيره. وسمع الحديث من هلال الحفار، وأبي محمد السكري، وأبي الحسن بن
رزقويه، وأبي الفتح بن أبي الفوارس، وابن رزقويه، وأبي الحسين بن بشران، وأخيه أبي
القاسم، وأبي علي بن شهاب، وأبي الفضل التميمي، وخلق كثير.
وتفقه أولاً على أبي طاهر بن الغباري، ثم على القاضي أبي يعلى، وهو من قدماء
أصحابه. وحضر عند أبي علي بن أبي موسى وناظر في مجلسه. وتفقه أيضًا على أبي الفضل
التميمي، وأخيه أبي الفرج.
وقرأ عليه القرآن جماعة، مثل أبي عبد اللّه البارع، وأبي العزّ القلانسي، وأبي بكر
المزْرَفِيّ.
وسمع منه الحديث خلق كثيرٌ. وقرأ عليه الحافظ الحميدي كثيراً.
حدَّث عنه ولداه أبو غالب أحمد ويحيى، وأبو الحسين بن الفراء، وأبو بكر بن عبد
الباقي، وابن الحَصين، وأبو القاسم بن السمرقندي وغيرهم.
ودرس الفقه كثيرًا وأفتى زمانًا طويلاً.
قال القاضي أبو الحسين: تفقه على الوالد، وعلق عنه المذهب والخلاف، ودَرس بدار
الخلافة في حياة الوالد وبعد وفاته. وصنف كتبًا في الفقه والحديث والفرائض، وأصول
الدين، وفي علوم مختلفات. وكان متفننًا في العلوم. وكان أديبًا شديدًا على أهل
الأهواء.
وقال ابن عقيل: هو شيخ إمام في علوم شتى: في الحديث، والقراءات، والعربية، وطبقة
في الأدب والشعر والرسائل، حسن الهيئة، حسن العبادة. كان يؤدب بني جردة.
وقال ابن شافع: كان له حلقتان، إحداهما: بجامع المنصور، وسط الرواق. والأخرى:
بجامع القصر، حيال المقصورة، للفتوى والوعظ وقراءة الحديث. وكان يفتي الفتوى
الواسعة، ويفيد المسلمين بالأحاديث والمجموعات وما يقرئه من السنن.
وكان نقي الذهن، جيد القريحة، تدل مجموعاته على تحصيله لفنون من العلوم، وقد صنف
قديمًا في زمن شيخه الإمام أبي يعلى في المعتقدات وغيرها، وكتب له خطه عليها
بالإصابة والاستحسان.
ولقد رأيتُ له في مجموعاته من المعتقدات ما يوافق بين المذهبين: الشافعي، وأحمد.
ويقصد به تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، مما قد استقر له وجود في استنباطه، مما
أرجو له به عند الله الزلفى في العقبى. فلقد كان من شيوخ الإسلام النصحاء، الفقهاء
الألباء. ويبعد غالبًا أن يجتمع في شخص من التفنن في العلم ما اجتمع فيه.
وقد جمع من المصنفات في فنون العلم فقهًا وحديثًا، وفي علم القراءات والسير،
والتواريخ والسنن، والشروح للفقه، والكتب النحوية إلى غير ذلك جموعًا حسنة، تزيد
على ثلاثمائة مجموع. كذا قرأته محققًا بخط بعض العلماء.
وقال ابن الجوزي: ذكر عنه أنه قال: صنفتُ خمسمائة مصنف.
وقال أبو نصر بن المُجْلي، مما ذكره ابن شافع عنه: له مجموعات ومؤلفات في المذهب،
وفيما سواه من المذاهب، وفي الحديث وغيره. وتراجم كتبه مسجوعة على طريقة أبي
الحسين بن المنادي.
قال: وكتبت الحديث عن نحو من ثلاثمائة شيخ لم أرَ فيهم من كتب بخطه أكثر من ابن
البناء.
قاد: وقال لي هو رحمه الله: ما رأيت بعيني من كتب أكثر مني.
قال: وكان طاهر الأخلاق، حسن الوجه والشيبة، محبًا لأهل العلم مكرمًا لهم.
توفي رحمه الله ليلة السبت خامس رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة. وصلى عليه في
الجامعين: جامع القصر، وجامع المنصور. وكان الجمع فيهما متوفرًا جدًا. أمَّ الناس
في الصلاة عليه: أبو محمد التميمي، وتبعه خلق كثير، وعالم عظيم. ودفن بباب حرب.
وقد غمزه ابن السمعاني، فقال: سمعت أبا القاسم بن السمرقندي يقول: كان واحد من
أصحاب الحديث اسمه الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري. وكان قد سمع الكثير.
وكان ابن البناء يكشط من التسميع بِوَرْيٍ، ويَمُدّ السِّين، وقد صار الحسن بن
أحمد بن عبد الله البناء، كذا قيل إنه يفعل هذا.
قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا القول بعيد الصحة لثلاثة أوجه. أحدها: أنه قال:
"كذا قيل" ولم يحك عن علمه بذلك. فلا يثبت هذا. والثاني: أن الرجل مكثر،
لا يحتاج إلى استزادة لما يسمع. والثالث: أنه قد اشتهرت كثرة رواية أبي علي بن
البناء. فأين ذكر هذا الرجل، الذي يقال له: الحسن بن أحمد بن عبد اللّه
النيسابوري? ومن ذكره? ومن يعرفه? ومعلوم أن من اشتهر سماعه لا يخفى، فمن هذا
الرجل? فنعوذ بالله من القدح بغير حجة. 1ه.
وذكر السلفي عن شجاع
الذهلي، والمؤتمن الساجي: أنهما غمزاه أيضًا. ولم يفسرا. وفسره السلفي بأنه كان
يتصرف في أصوله بالتغيير والحكِّ.
وذكر ابن النجار: أن تصانيفه تدل على قلة علمه، وسوء تصرفه، وقلة معرفته بالنحو
واللغة. كذا قال. وابن النجار أجنبي من هذه العلوم فما باله يتكلم فيها? وقد وقع
لنا الكثير من حديثه عاليًا.
فمن ذلك: ما أخبرنا به أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بفسطاط مصر- قال:
أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج عبد الرحمن
بن علي بن محمد بن الجوزي، أخبرنا أبو المعالي أحمد بن محمد بن الحسين المداري،
أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد بن البناء، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا أبو
علي بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد القرشي حدثني الوليد بن سفيان، حدثنا ابن
أبي عَديٍّ عن شُعبة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "الدنيا سجنُ المؤمن وجنةُ الكافر".
ذكر ما وقفت عليه من أسماء مصنفات ابن البناء: شرح الخرقي في الفقه، الكامل في
الفقه، الكافي المحدد في شرح المجرد. الخصال والأقسام، نزهة الطالب في تجريد
المذاهب، آداب العالم والمتعلم، شرح كتاب الكرماني في التعبير، شرح قصيدة ابن أبي
داود في السنة، المنامات المرئية للإمام أحمد: جزء، أخبار الأولياء، والعُبَّاد
بمكة: جزء، صفة العباد في التهجد والأوراد: جزء، المعاملات والصبر على المنازلات:
أجزاء كثيرة. الرسالة في السكوت ولزوم البيوت: جزء، سلوة الحزين عند شدة الأنين:
جزء، طبقات الفقهاء، أصحاب الأئمة الخمسة، التاريخ، مشيخة شيوخه، فضائل شعبان،
كتاب اللباس، مناقب الإمام أحمد، أخبار القاضي أبي يعلى: جزء، شرف أصحاب الحديث،
ثناء أحمد على الشافعي، وثناء الشافعي على أحمد، وفضائل الشافعي، كتاب الزكاة
وعقاب من فرط فيها: جزء، المفصول في كتاب اللّه: جزء، شرح الإيضاح في النحو
الفارسي، مختصر غريب الحديث لأبي عبيد، مرتب على حروف المعجم.
ومن فوائد ابن البناء الغريبة: أنه حكى في شرح الخرقي عن بعض الأصحاب أنه يعفى عن
يسير يغيّر رائحة الماء بالنجاسه، كقول الخرقي في التغير بالطاهرات.
وذكر في شرح المجرد: أن من أخر الصلاة عمدًا في السفر وقضاها في الحضر له القصر
كالناسي.
قال: ولم يفرق الأصحاب بينهما. وإنما يختلفان في المأثم وعدمه. وهذا النقل غريب
جدًا.
وقد ذكر نحوه القاضي أبو يعلى الصغير في شرح المذهب، ولا يعرف في هذه المسألة كلام
صريح للأصحاب، إلا أن بعض الأئمة المتأخرين ذكر: أنه لا يجوز القصر للعامد،
واستشهد على ذلك بكلام جماعة من الأصحاب في مسائل، وليس له فيما ذكره حجة. واللّه
تعالى أعلم.
وذكر في هذا الكتاب: أن حكم اقتداء بعض المسبوقين ببعض فيما يقضونه من صلاتهم: لا
فرق فيه بين الجمعة وغيرها. وأن الخلاف جارٍ في الجميع. وهذا خلاف ما ذكره القاضي
وأصحابه موافقة للشافعية: أن الجمعة لا يجوز ذلك فيها وجهًا واحداً لأنها لا تقام
في موضع واحد في جماعتين.
قال ابن البناء: وفي هذا عندنا نظر لأنه يجوز إقامتها مرتين، يعني للحاجة.
ومما أنشده السلفي عن ابن أبي الحسين الطيوري: أن ابن البناء أنشده لنفسه على
البديهة:
إذا غُيِّبْتْ أشباحنا كـان بـينـنـا |
|
رسائل صدقٍ في الضمير تراسلُ |
وأرواحنا في كل شرق ومغـرب |
|
تلاقَى بإخلاص الوداد تواصـلُ |
وثَمَّ أمور لو تحققتَ بعـضَـهـا |
|
لكنتَ لنا بالعذر فيها تُـقـابـل |
وكم غائب والقلب منه مسـالـم |
|
وكم زائرٍ في القلب منه بلابـلُ |
فلا تجزعن يومًا إذا غاب صاحب |
|
أمين، فما غاب الصديق المجاملُ |
حمزة بن الكيالي البغدادي، أبو يعلى الفقيه الزاهد:
ذكره أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه
وعلق عنه، وسمع منه.
وقال في ترجمته: كان رجلاً صالحًا، تردد إلى الوالد زمانًا مواصلاً، وسمع منه
علمًا واسعًا، وكان عبدًا صالحًا. وقيل: إنه كان يحفظ الاسم الأعظم.
وقال ابن خيرون: كان صالحًا زاهدًا، ملازمًا لبيته ومسجده، معتزل الخصومات
والمراء.
وقال ابن شافع في تاريخه: كان رجلاً صالحًا، ملازمًا لبيته ومسجده، حافظًا للسانه،
معتزلاً عن الفتن.
توفي يوم الأربعاء سابع عشر من شهر رمضان سنة إحدى وسبعين وأربعمائة ودفن بمقبرة باب الدير.
أبو بكر بن عمر الطحان:
قال أبو الحسين: حضر درس الوالد، وعلق عنه. ومات في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
عبد الباقي بن جعفر بن شَهْلَى
الفقيه الحنبلي، أبو البركات: قال ابن
السمعاني: أحد المقلِّين. حدَّث بشيء يسير عن أبي إسحاق البرمكي، وروى عنه هبة
الله السَقَطي في معجمه. وذكر القاضي أبو الحسين، في أسماء من تفقه على أبيه وعلق
وسمع الحديث: أبا البركات بن شهلى، وهو هذا. رأيت ذلك في طبقة سماعه.
قال القاضي أبو يعلى: وهو ابن شَهلِي بالياء.
علي بن محمد بن الفرج بن إبراهيم البزاز، المعروف بابن أخي نصر العكبري
ذكره ابن الجوزي في الطبقات، وقال: سمع
من أبي علي بن شاذان والحسن بن شهاب العكبري. وكان له تقدم في القرآن والحديث،
والفقه والفرائض، وجمع إلى ذلك النسك والورع.
وذكر ابن السمعاني نحو ذلك، وقال: كان فقيه الحنابلة بعكبرا، والمفتي بها. وكان
خيرًا، ورعًا متزهدًا، ناسكاً كثير العبادة. وكان له ذكر شائع في الخير، ومحلّ
رفيع عند أهل بلدته
وتوفي في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
وذكر ابن شافع وغيره: أنه حدث بشيء يسير، وأن وفاته كانت يوم الإثنين ثالث عشر شهر
ربيع الآخر من السنة المذكورة بعكبرا.
روى عنه إسماعيل بن السمرقندي، وأخوه عبد الله وغيرهُما. وسمع منه مكي الرُّميلي
وجماعة. ومما أنشده لنفسه:
اعجبْ لمحتكر الدنـيا وبـانـيهـا |
|
وعن قليل على كرهٍ يُخـلِّـيهـا |
دارٌ عواقب مفروحاتـهـا حَـزنٌ |
|
إذا أعارت أساءت في تقاضيهـا |
يا من يُسـرُّ بـأيامٍ تـسـيرُ بِـه |
|
إلى الفـنـاء وأيام يُقَّـضـيهـا |
قف في منازل أهل العز معتبـراً |
|
وانظرْ إلى أي شيءٍ صار أهلوها |
صاروا إلى جدث قَفرٍ، محاسنهـم |
|
على الثرى ودَوِيُّ الدُودِ يَعلوهـا |
طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن القواس البغدادي
الفقيه الزاهدُ الوَرعُ، أبو الوفاء:
وُلد سنة تسعين وثلاثمائة. وقرأ القران على أبي الحسن الحمامي، وسمع الحديث من
هلال الحفار، وأبي الحسين بن بشران، وأبي نصر بن الزينبي، وأبي الحسين بن الفضل
القطان، وأبي سهل العكبري وغيرهم.
وتفقه أولاً على القاضي أبي الطيب الطبري الشافعي، ثم تركه وتفقه على القاضي أبي
يعلى، ولازمه حتى برع في الفقه، وأفتى ودرس. وكانت له حلقة بجامع المنصور للفتوى
والمناظرة. وكان يلقي المختصرات من تصانيف شيخه القاضي أبي يعلى درسًا، ويلقي
مسائل الخلاف درسًا. وكان إليه المنتهى في العبادة والزهد والورع.
ذكر ابن ناصر: أنه كان زاهد وقته في الطبقة الثانية عشرة.
وذكره ابن السمعاني في تاريخه، فقال: من أعيان فقهاء الحنابلة وزهادهم. كان قد
أجهد نفسه في الطاعة والعبادة، واعتكف في بيت الله خمسين سنة، وكان يواصل الطاعة
ليله بنهاره، وكان قارئاً للقرآن، فقيهًا ورعًا، خشن العيش انتهى كلامه.
وكانت له كرامات ظاهرة.
ذكر ابن شافع في ترجمة صاحبه أبي الفضل بن العالمة الإسكافي المقرىء: أنه كان يحكي
من كرامات الشيخ أبي الوفاء أشياء عجيبة.
منها: أنه قال: كنت أحمل معي رغيفين كل يوم، فأعبر- يعني في السفينة- برغيف، وأمشي
إلى مسجد الشيخ فأقرأ، ثم أعود ماشيًا إلى ذلك الموضع، فأنزل بالرغيف الآخر. فلما
كان يوم من الأيام، أعطيتُ الملاح الرغيف، فرمى به واستقله، فألقيتُ إليه الرغيف
الآخر، وَتشوش قلبي لما جرى، وجئت الشيخ، فقرأت عليه عادتي، وقمتُ على العادة،
فقال لي:- قف- ولم تجر عادته قط بذلك- ثم أخرج من تحت وطائِه قرصًا، فقال: اعبُر
بهذا. فلحقني من ذلك أمرٌ بانَ عليَّ، ومضيتُ فعبرتُ به. وكان ابن العالمة- هذا-
قد قرأ على الشيخ أبي الوفاء القرآن بالروايات.
وقال أبو الحسين، وابن الجوزي في الطبقات: كانت له حلقة بجامع المنصور يفتي ويعظ،
وكان يدرس الفقه، ويقرىء القرآن. وكان زاهدًا أمارًا بالمعروف، نهاءً عن المنكر،
أقام في مسجده نحوًا من خمسين سنة، وأجهد نفسه في العبادة وخشونة العيش.
قال ابن السمعاني: سمعتُ عبد الوهاب بن
المبارك الحافظ يقول: سأل واحدٌ أبا الوفَاء بن القواس عن مسألة في حلقته بجامع
المنصور، وكان الشيخ ممن قد رأى السائل في الحمام بلا مئزر، مكشوف العورة، فقال
له: لا أجيبك عن مسألتك حتى تقوم ههنا في وسط الحلقة، وتخلع قميصك وسراويلك، وتقف
عريانًا، فقال السائل: يا سيدنا، أنا أستحي، وهذا مما لا يمكن، فقال له: يا فلان،
فهؤلاء الحضور، أو جماعة منهم الذين كانوا في الحمام، ودخلتَ مكشفًا بلا مئزر، إيش
الفرق بين جامع المنصور والحمام? فاستحيى الرجل من ذلك. ثم ذكر فصلاً طويلاً في
النهي عن كشف العورة، وأجاب عن سؤاله.
وقال ابن عقيل: كان حسن الفتوى، متوسطًا في المناظرة في مسائل الخلاف إمامًا في
الإقراء، زاهدًا شجاعًا مقدامًا، ملازمًا لمسجده، يهابه المخالفون، حتى إنه لما
توفي ابن الزوزني، وحضره أصحاب الشافعي- على طبقاتهم وجموعهم- في فورة أيام
القشيري وقوتهم بنظام الملك حضر، فلما بلغ الأمر إلى تلقين الحفار قال له: تنحّ
حتى ألقنه أنا، فهذا كان على مذهبنا، ثم قال: يا عبد الله وابن أمته، إذا نزل عليك
ملكان فظّان غليظان، فلا تجزع ولا تُرَعْ، فإذا سألاك فقل: رضيتُ بالله رباً،
وبالإسلام ديناً لا أشعري ولا معتزلي بل حَنبلي سُنِّي. فلم يتجاسر أحد أن يتكلم
بكلمة ولو تكلم أحد لفَضَخ رأسَه أهلُ باب البصرة، فإنهم كانوا حوله قد لَقّن
أولادهم القراَن والفقه، وكان في شوكة ومنعَة، غير معتمد عليهم، لأنه أمة في نفسه.
حدّث عن الشيخ أبي الوفاء جماعة، منهم: عبد الوهاب الأنماطي، وأبو القاسم ابن
السمرقندي، وعليّ بن طِراد الزينبي، والقاضي أبو بكر الأنصاري، وغيرهم.
وتوفي يوم الجمعة سابع عشر شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة. ودفن إلى جانب الشريف
أبي جعفر بدكة الإمام أحمد رضي اللّه عنه، ليس بينه وبينه غير قبر الشريف رحمه
الله تعالى.
قرأ على أبي عبد اللّه محمد بن إسماعيل الأيوبي- بالقاهرة وأنا أسمع-: أخبرنا أبو
العز عبد العزيز بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو علي بن أبي القاسم بن الحريف،
أخبرنا القاضي أبو بكر بن محمد بن عبد الباقي، أخبرنا أبو الوفاء بن القواس،
أخبرنا أبو سهل العكبري، حدثنا إبراهيم بن أحمد الخرقي، حدثنا أحمد بن عبد الله بن
سابور، حدثنا إسحاق بن إسرائيل، حدثنا الفضل بن حرب البجلي، حدثنا عبد الرحمن بن
بديل عن أبيه عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لكل شيء حلية،
وإنَّ حليةَ القرآن: الصوتُ الحسن".
ذكر أبو الحسن بن البناء في كتاب "أدب العالم والمتعلم": أنه حدث في زمانه
مسألة، وهي: هل يجوز أن يقرأ على المحدّث الثقة كتاب، ذكر أنه سماعه، وليس هناك خط
يشهد به من شيخ ولا غيره? وأن فقهاء عصرهم اتفقوا على جواز ذلك وكتبوا به خطوطهم،
وذكر خلقًا ممن أفتى بذلك. أولهم: أبو محمد التميمي من أصحابنا. وقال: الخط عادة
محدثة، استظهرها المحدثون من غير إيجاب لها.
وكتب أبو إسحاق الشيرازي تحت خطه: جوابي مثله.
قال ابن البناء: وكتبتُ أنا: المحدث الثقة: القول قوله في ذلك، ولو رأوا سماعه في
كتاب، حتى يقول المحدّث: "ما سمعته " لم يجز أن يقرأ عليه والسلف رضي
الله عنهم، على هذا كانوا يحدثون بالأحاديث، وأكثرهم يذكرها من حفظه، ويسمعونها
منهم، وإن لم يظهروا خط من حدّثهم به.
قاد: وبلغني أن الشريف الأجل أبا جعفر بن أبي موسى كذلك أفتى.
وذكر أجوبة كثيرة، منها: جواب ابن القواس. ولفظه: الظاهر العدالة، يقنع بمجرد
قوله، ولا يطالب بخط من أسند عنه من شيوخه، وكتبه ابن القواس الحنبلي.
وذكر مثل ذلك عن قاضي القضاة أبي عبد اللّه بن الدامغاني وأبي نصر بن الصباغ، وأبي
بكر الشامي وغيرهم.
وذكر أن مثل هذه المسألة وقع مرتين فيما تقدم، وأن الفقهاء والمحدثين اتفقوا على
السماع بذلك، منهم: الحافظ أبو عبد الله الصوري قال: وامتنع من السماع بذلك نفر،
لا يعتد بخلافهم. قال: ولا أعلم أحدًا يخالف في هذه المسألة من فقهاء العصر
والمتقدمين قبلهم، من أئمة أصحاب الحديث: المتقدمين العلماء، والمتأخرين البلغاء
قلتُ: وقد وقع في المائة السابعة مثل
هذه المسألة في صحيح مسلم لما قال القاسم
الإربلي:
سمعتُه من المؤيد الطوسي، فقُبل ذلك منه. وسُمع عليه الكتاب غير مرة، وسمعه منه الحفاظ والفقهاء. وأفتى بالسماع عليه جماعة، منهم:
قاضي القضاة شمس الدين بن أبي عمر المقدسي.
عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب بن
جلبة
البغدادي ثم الحراني
الجزار، أبو الفتح قاضي حَرّان: اشتغل ببغداد، وتفقه بها على
القاضي أبي
يعلى، وسمع الحديث من البرقاني، وأبي طالب العشاري، وأبي علي بن شاذان، وأبي علي بن شهاب العكبري، والقاضي أبي يعلى، وغيرهم. ثم استوطن
حران، وصحب بها الشريف أبا القاسم الزيدي،
وأخذ عنه، وتولى بها القضاء.
قال ابن
السمعاني: بغدادي سكن حران، وولي بها القضاء، وعمل المظالم، وكان فقيهًا واعظًا فصيحًا.
وذكره أبو
الحسين في الطبقات، ونسبه إلى حران.
ورأيت بخط
نفسه في نسبه "الحراني".
قال أبو
الحسين: وقدم بغداد من ثغر حران قاصدًا لمجلس الوالد، وطالبًا لدرس الفقه عليه، فتفقه عليه، وكتب كثيرًا من مصنفاته. وكان يلي قضاء حرّان
من قبل الوالد، كتب له عهدًا بولاية القضاء
بحران، وكان ناشرًا للمذهب، داعيًا إليه. وكان مفتي حران،
وواعظها
وخطيبها ومُدَرسها.
قلتُ: وله
تصانيف كثيرة، قال أبو عبد الله بن حمدان: اختصر المجرد، وله:
"رؤوس مسائل" و
"أصول
فقه" و
"أصول
دين". وله أيضاً -مما لم يذكره ابن حمدان-: "كتاب النظام بخصال الأقسام".
وسمع منه
الحديث جماعة، منهم: هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، ومكي الرُّمَيْلي، وغيرهما. وفي زمانه كانت حران لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكان
رافضيًا، فعزم القاضي أبو الفتح على تسليم
حرّان إلى "جبق"
أمير التركمان
لكونه سُنيًا، فأسرع ابن قريش إلى حران وحصرها،
ورماها بالمنجنيق، وهدم سورها وأخذها، ثم قتل القاضي أبا
الفتح وولديه،
وجماعة من أصحابه، وصلبهم على السور سنة ست وسبعين وأربعمائة-
وقبورهم ظاهرة
بحران تُزار رحمة الله عليهم.
أنبأتني زينب
بنت أحمد بن عبد الرحيم المقدسي عن عبد الرحمن بن مكي الحاسب، أخبرنا جدي أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي قال: أخبرنا أبو الفتح أحمد
بن محمد بن حامد الأسدي الحراني- بماكِسينَ،
وقد ولي قضاءها- قال: كتب إليَّ أبو طالب محمد بن علي
بن الفتح
الشعاري من بغداد. وحدثنا عنه أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد بن جلبة القاضي- بحران إملاء- حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله
الدقاق، حدثنا الحسين بن صفوان البرذعي حدثنا عبد
الله بن محمد بن عبيد القرشي، حدثنا محمد بن بشير، حدثنا
عبد الرحمن بن
جرير حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الله تعالى كَلَّ
لسانُه ولم يشف غيظه".
ذكر أبو
العباس أحمد بن تيمية في أول "شرح العمدة": أن أبا الفتح بن جَلَبة كان
يختار استحباب
مسح الأذنين بماء جديد، بعد مسحهما بماء الرأس. وهو غريب جدًا.
وذكر ابن
حمدان عنه أنه قال: الحق أن الحروف كلها قديمة، وتركيبها في غير القرآن محدث، إن قلنا: اللُغة اصطلاح، وإن قلنا: توقيف، فقديمة.
قال يحيى بن
منده في مناقب الإمام: وَجَدْتُ بخط المؤتمن البغدادي الشيخ الصالح الثقة المتدين رحمه الله، قال: قال أبو يعلى الحنبلي البغدادي:
أخرج إليّ أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد الحراني
صاحبنا هذه الأبيات، قال: وجدتها في كتاب المصباح، قال:
أنشدني أبو
منصور الفقيه لأحمد بن محمد بن حنبل رحمه اللّه:
يا طـالـبَ الـعـلـم، صـارمْ كـلَّ بـطـــال |
|
وكـل غـــادٍ إلـــى الأهـــواء مَـــيَّالِ |
واعـمـل بـعـلـمـك سـرًا أو عــلانـــية |
|
ينـفـعـك يومًـا عـلـى حـال مـن الـحـالِ |
ولا تميلنَّ يا هذا إلى بدعتضل أصحابها بالقيل والقالِ |
|
|
خذ ما أتاك به ما جاء من أثر |
|
شِبـهًـا بـشـبـهٍ وأمـثـالاً بـأمـــثـــالِ |
ألا فـكـنْ أثـريّاً خـالـصًـا فــهـــمًـــا |
|
تعـــشْ حـــمـــيدًا ودَعْ آراء ضـــلالِ |
"جَلَبَة" بفتح الجيم واللاَّم والباء الموحدة- قيده ابن نقطة
وغيره.
وقد روى هذه
الحكاية ابن النجار من طريق أبي منصور الخياط، عن القاضي أبي يعلى، قال: أخرج إليّ أبو الفتح عبد الوهاب بن أحمد هذه الأبيات قال:
وجدتها في كتاب المصباح.
قال: أنشدني علي بن منصور، ولم يذكر أحمد. وهذا هو الصحيح.
عبد الله بن عطاء بن عبد الله بن أبي منصور بن الحسن بن إبراهيم الإبراهيمي
الهروي، المحدث الحافظ، أبو محمد: أحد الحفاظ المشهورين الرحالين، سمع بهراة من عبد الواحد المليحي وشيخ الإسلام الأنصاري، وببوشنج من أبي الحسن الداودي، وبنيسابور من أبي القاسم القشيري، وأبي عثمان النميري وجماعة، وببغداد من أبي الحسين بن النقور وطبقته، وبأصبهان من عبد الرحمن وعبد الوهاب ابني منده، وجماعة.
وكتب بخطه الكثير، وخرج التخاريج للشيوخ، وَحَدث.
وروى عنه أبو محمد سبط الخياط، وأبو بكر بن الزعفراني. وآخر من روى عنه: أبو
المعالي بن النحاس، ووثقه طائفة من حفاظ وقته في الحديث، منهم: المؤتمن الساجي.
وقال شهردار الديلمي عنه: كان صدوقًا حافظًا، متقنًا واعظاً، حسن التذكير.
وقال يحيى بن منده: كان أحد من يفهم الحديث ويحفظ، صحيح النقل، كثير الكتابة، حسن
الفهم، وكان واعظًا حسن التذكير.
وقال خميس الجوزي: رأيته ببغداد ملتحقًا بأصحابنا، ومتخصصًا بالحنابلة، يُخرّج لهم
الأحاديث المتعلقة بالصفات، ويرويها لهم. وأضداده من الأشعرية يقولون: هُو يضعها.
وما علمتُ فيه ذلك.
وكان يعرفه. انتهى.
وقد تكلم فيه هبة الله السقطي، والسقطي مجروح، لا يقبل قوله فيه مقابلة هؤلاء
الحفاظ. وقد رد كلامه فيه ابن السمعاني وابن الجوزي وغيرهما.
وخرّج الإبراهيمي شيوخ الإمام أحمد وتراجمهم.
وتوفي في طريق مكة بعد عوده منها، على يومين من البصرة، سنة ست وسبعين وأربعمائة.
رحمه الله تعالى.
أحمد بن علي بن عبد الله المقرىء
الصوفي المؤدب، أبو الخطاب البغدادي: وُلد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. قرأ على أبي الحسن الحمامي وغيره. تلا على الحمامي المذكور بالسبع. وقرأ عليه خلق كثير، منهم: أبو الفضل بن المهتدي، وهبة اللّه بن المُجْلي، وغيرهما.
وروى عنه الحديث أبو بكر بن عبد الباقي وغيره. وله مصنف في السبعة، وقصيدة في
السنة، رواها عنه عبد الوهاب الأنماطي وغيره، وقصيدة في عدد الآي. وكان من شيوخ
الإقراء ببغداد المشهورين بتجويد القراءة وتحسينها.
توفي يوم الثلاثاء سادس عشرين رمضان سنة ست وسبعين وأربعمائة. ودفن بباب حرب.
أُنبِئْتُ عن القاضي أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي، أنبأنا عمر بن محمد
بن طَبَرْزَد، أبنأنا أبو عبد اللّه الحسين بن علي المقرىء قال: أنبأنا أبو الخطاب
الصوفي قال: كنت على مذهب الإمام الشافعي، وكان عادتي: أن لا أرجّعَ في الأذان،
ولا أقنت في صلاة الفجر، غير أنني أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وكان عادتي أيضًا
ليلة الغيم: أنوي من رمضان كما جرت عادة أصحاب أحمد، فلما كان في بعض الليالي:
رأيت كأنني في دار حسنة جميلة، وفيها من الغلمان والخدم والجند خلق كثير، وهم صغار
وكبار، والدخل والخرج، والأمر والنهي. فإذا رجل بهي شيخ على سرير، والنور على وجهه
ظاهر، وعلى رأسه تاج من ذهب مرصع بالجوهر، وثياب خضر تلمع. وكان إلى جنبي رجل
ممنطق يشبه الجند، فقلت له: بالله هذا المنزل لمَن?. قال لمن ضرب بالسوط حتى يقول:
القرآن مخلوق. قلت أنا في الحال: أحمد بن حنبل? قال هو ذا. فقلت: واللّه إن في
نفسي أشياء كثيرة، أشتهي أن أسأله عنها، وكان على سرير، وحول السرير خلق قيام.
فأومأ إليّ أن اجلسْ، وسَلْ عما تريد. فمنعني الحياء من الجلوس. فقلت: يا سيدي،
عادتي لا أرجِّع في الأذان، ولا أقنت في صلاة الفجر، غير أنني أجهر ببسم اللّه
الرحمن الرحيم، وأخشع. فقال بصوت رفيع عال: أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
أتقى منك وأخشع، وأكثرهم لم يجهروا بقراءتها. فقلت: عادتي ليلة الغيم أصوم، كما
قال الإمام أحمد بن حنبل. فقال اعتقد ما شئت من أي مذهب تدين الله به، ولا تكن
مَعْمَعِيًّا. وأنا أرعدُ. فلما أصبحتُ أعلمتُ من يُصَلي ورائي بما رأيتُ، ولم
أجهر بعدُ، ودعاني ذلك إلى أن قلتُ هذه القصيدة وهي:
حقيقة إيماني: أقول لتَسـمـعـوا |
|
لعلَي به يوماً إلى اللّـه أرجـع |
بأن لا إله غير ذي الطول وحـده |
|
تعالى، بلا مثل، له الخلق خضع |
وليس بمولـود، ولـيس بـوالـد |
|
يرى ما عليه الخلق طرا، ويسمع |
وذكر أبياتًا إلى أن قال:
وإن كتاب اللـه لـيس بـمـحـدثٍ |
|
على ألسن تتلو، وفي الصدر يجمعُ |
وما كتب الحفاظ في كل مصحـفٍ |
|
كذلك إن أبصرتَ، أو كنت تسمـعُ |
وللجبل الرحمـن لـمـا بـدا لـه |
|
تدكدك خوفاً كالشظى يتـقـطـعُ |
وكلّمَ موسى ربه فـوق عـرشـه |
|
على الطور تكليماً، فما زال يخضعُ |
وذكر بقية الاعتقاد إلى أن قال:
عن مذهبي إن تسألوا فابنُ حنبلٍبه أقتدي ما دمتُ حياً أمتَّعُ |
وذكر باقي القصيدة.
أحمد بن مرزوق بن عبد الله بن عبد الرزاق الزعفراني
المحدث أبو المعالي: سمع الكثير، وطلب
بنفسه. وكتب بخطه.
قال أبو علي البرداني: كان همه جمع الحديث وطلبه. حدّث باليسير عن أحمد بن محمد بن
عمر بن الأخضر، وأبي الحسين أحمد بن محمد بن الحسن العكبري، وأبي الفضل هبة الله
بن محمد الأزدي.
روى عنه أبو علي البرداني، وقال: إنه
مات ليلة الثلاثاء مستهل المحرم سنة ثمان وسبعين وأربعمائة. ودفن من الغد بباب
حرب. وكان شابًا. انتهى.
وهو أخو أبي الحسن محمد الشافعي الذي هو من أصحاب الخطيب أبي بكر.
شافع بن صالح بن حاتم بن أبي عبد الله الجيلي، أبو محمد:
قدم بغداد بعد الثلاثين وأربعمائة. وسمع من أبي علي بن المذهب، والعشاري، وابن غيلان، والقاضي أبي يعلى، وعليه تفقه.
وكتب معظم تصانيفه في الأصول والفروع. ودرس الفقه بمسجد الشريف أبي جعفر بدرب
المطبخ شرقي بغداد، وكان يَؤُم به أيضًا. وخَلَفَه أولاده من بعده في ذلك، حتى عرف
المسجد بهم.
قال أبو الحسين، وابن الجوزي: كان متعففًا متقَشفًا ذا صلاح.
قال ابن السمعاني: كان ذا دين وصلاح، وتعفف وتقشف، حسن الطريقة، صحيح الأصول. كتب
التصانيف في مذهب الإمام أحمد كلها. ودرس الفقه، وروى لنا عنه عبد الوهاب
الأنماطي.
وتوفي يوم الثلاثاء سادس عشرين صفر سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن من الغد بمقبرة باب
حرب رحمه الله تعالى.
عبد الله بن نصر الحجازي، أبو محمد الزاهد:
قال ابن الجوزي: سمع الحديث، وصحب الزهاد، وتفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
وكان خشن العيش متعبدًا. وحج على قدميه بضع عشر حجة.
وتوفي في ربيع الأول سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن بباب حرب.
محمد بن علي بن الحسين بن القيم الخزاز الخريمي أبو بكر الحنبلي:
طلب الحديث. وسمع من أبي الغنائم بن
المأمون، والجوهري، والعشاري، وغيرهم. وكتب بخطه الحديث والفقه. وأظنه جالس القاضي
أبا يعلى.
وحدّث باليسير. سمع منه أبو طاهر بن الرحبي القطان، وأبو المكارم الظاهري.
توفي يوم الأحد سلخ ذي الحجة آخر يوم من سنة ثمانين وأربعمائة. ودفن بباب حرب.
رحمه الله تعالى.
عبد اللّه بن محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مَتَّ الأنصاري
الهروي، الفقيه المفسر الحافظ، الصوفي
الواعظ، شيخ الإسلام أبو إسماعيل: وهو من ولد أبي أيوب زيد بن خالد الأنصاري، صاحب
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ولد في شعبان سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
ذكره عبد القادر الرهاوي في كتاب "المادح والممدوح" وهو مجلد ضخم يتضمن
مناقب شيخ الإسلام الأنصاري وما يتعلق بها، قال: رأيته في تاريخ أبي عبد اللّه
الحسين بن محمد الهروي الكتبي، الذي ذيل به على تاريخ إسحاق القَرَّاب الحافظ،
وذكر: أنه سأل أبا إسماعيل عن سنه. فأخبره بذلك. وكذا ذكر ابن نقطة.
وهذا أصح مما ذكره ابن الجوزي: أنه وُلد في ذي الحجة سنة خمس وتسعين.
وذكر عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في ذيل تاريخ نيسابور: أنه ولد سنة ست وتسعين.
وسمع الحديث بهراة من يحيى بن عمار السجزي، وأخذ منه علم التفسير، وأبي منصور
الأزدي، وأبي الفضل الجارودي الحافظ، وأخذ منه علم الحديث، وشعيب البوشنجي وغيرهم.
وبنيسابور من أبي سعيد الصيرفي، وأبي نصر المفسر المقرىء، وأبي الحسن الطرازي،
وجماعة من أصحاب الأصم. ورأى القاضي أبا بكر الحيري، وحضر مجلسه، ولم يسمع منه.
وكان يقول: تركتُه للّه. وكان قد سمع منه في مجلسه ما ينكره عليه من مخالفة السنة.
ذكره الرهاوي عن السلفي، عن المؤتمن الساجي، عنه.
وسمع بطوس وبسطام، من خلق يطول ذكرهم. وصحب الشيوخ، وتأدّب بهم. وخرج الأمالي
والفوائد الكثيرة لنفسه ولغيره من شيوخ الرواة. وأملى الحديث سنين.
وصنف التصانيف الكثيرة، منها: كتاب "ذم الكلام" وكتاب
"الفاروق" وكتاب "مناقب الإمام أحمد" وكتاب "منازل
السائرين" وكتاب "علل المقامات" وله كتاب في "تفسير
القرآن" بالفارسية جامع، و "مجالس التذكير" بالفارسية حسنة، وغير
ذلك.
وكان سيدًا عظيمًا، وإمامًا عالمًا عارفًا، وعابدًا زاهدًا، ذا أحوال ومقامات
وكرامات ومجاهدات، كثير السهر بالليل، شديد القيام في نصر السنة والذب عنها والقمع
لمن خالفها. وجرى له بسبب ذلك محن عظيمةْ. وكان شديد الانتصار والتعظيم لمذهب
الإمام أحمد.
قال ابن السمعاني: سمعت أبا طاهر أحمد بن أبي غانم الثقفي، سمعت صاعد ابن سيار
الحافظ، سمعت أبا إسماعيل عبد اللّه بن محمد الأنصاري الإمام يقول: "مذهبُ
أحمد. أحمدُ مَذْهَب".
وقال محمد بن طاهر الحافظ
في كتابه "المنثور من الحكايات والسؤالات": سمعت عبد الله بن محمد
الأنصاري يقول: لما قصدت الشيخ أبا الحسن الجركاني الصوفي وعزمت على الرجوع وقع في
نفسي أن أقصد أبا حاتم بن خاموش الحافظ بالري، وألتقي به. وكان مقدم أهل السنة
بالري.
وذلك أن السلطان محمود بن سَبكْتَكِين لما دخل الرّيَّ قتل بها الباطنية ومنع سائر
الفرق الكلام على المنابر غير أبي حاتم. وكان من دخل الري من سائر الفرق يعرض
اعتقاده عليه، فإن رضيه أذن له في الكلام على الناس وإلا منعه، فلما قربت من الري
كان معي في الطريق رجل من أهلها، فسألني عن مذهبي. فقلت: أنا حنبلي، فقال: مذهبٌ
ما سمعتُ به، وهذه بدعة. وأخذ بثوبي، وقال: لا أفارقك حتى أذهب بك إلى الشيخ أبي
حاتم. فقلت: خيرة فإني كنت أتعب إلى أن ألتقي به، فذهب بي إلى داره.
وكان له ذلك اليوم مجلس عظيم، فقال: أيها الشيخ، هذا الرجل الغريب سألتُه عن
مذهبه، فذكر مذهبًا لم أسمع به قط. قال: ما قال. قال: أنا حنبلي. فقال: دعْهُ، فكل
من لم يكن حنبليًا فليس بمسلم، فقلت: الرجل كما وُصفَ لي. ولزمته أيامًا، وانصرفت.
وإنما عُني أبو حاتم في الأصول.
وذكر عبد القادر الرهاوي: أخبرنا أبو سعد الصايغ: سمعت عبد الجبار بن أبي الفضل
الصيرفي، سمعت جماعة من أصحاب شيخ الإسلام الأنصاري يقولون: سمعنا شيخنا شيخ
الإسلام أبا إسماعيل يقول: فذكر أبياتًا بالفارسية تفسيرها بالعربية:
إلهنا مَرْئِيٌ على العرش مُستوٍ |
كلامُه أزلي رَسُوله عَربيّ |
كل من قال غير هذا أشْعَرِيّ |
مَذهبُنا مَذهَبٌ حنبلي |
قال عبد القادر: سمعت أبا عروبة عبد الهادي بن محمد الزاهد بسجستان يقول:
سمعت شيخ الإسلام أبا نصر هبة الله بن عبد الجبار بن فاخر يقول: قال لي شيخ
الإسلام- يعني الأنصاري- كيف تفعلون في القنوت? قلت: أوصاني أبي أن أقنت في الوتر.
قال: وما قال لك: لا تقنت في الصبح. قلت: لا. قال: فما أنصفك.
وذكر ابن طاهر الحافظ في كتابه المذكور قال: سمعت الإمام عبد اللّه بن محمد
الأنصاري يُنشد على المنبر في يوم مجلسه بهراة:
أنا حنبليٌٌّّ ما حييت وإن أمت |
|
فَوَصِيتي للناس أن يَتَحَنْبَلُوا |
وَلشيخ الإسلام قصيدة نونية طويلة مشهورة ذكر فيها أصول السنة ومدح أحمد وأصحابه. وقد أنبأتني بها زينب بنت أحمد، عن عجيبة بنت أبي بكر، عن أبي جعفر محمد بن الحسين بن الحسن الصيدلاني. قال: أنشدنا شيخ الإسلام فذكر القصيدة إلى أن قال:
وإماميَ الـقَـوّام لـلـه الّـذِي |
|
دفنوا حَميدَ الشأن في بـغـدانِ |
جمع التقى والزهد في دُنـياهـم |
|
والعلم بعـد طـهـارة الأردانِ |
خطمُ النبي، وصيرفيُّ حـديثـه |
|
ومُفلِّقٌ أعرافَـهـا بـمـعـانِ |
حبْرُ العراق، ومحنةٌ لذوي الهوى |
|
يدري ببغضته ذَوُو الأضغـانِ |
عرفَ الهدى فاختار ثوبي نُصرَة |
|
وشجى بمُهجتِه عُرَى عِرفـانِ |
عُرِضَتْ له الدنيا فأعرض سالماً |
|
عنها كفعل الراهب الخمصـانِ |
هانت عليه نفـسُـه فـي دِينـهِ |
|
ففدى الإمامٌ الدينَ بالجـثـمـانِ |
لله ما لقي ابن حنبـلَ صـابـرًا |
|
عزماً وينصـره بـلا أعـوانِ |
أنا حنبلي ما حـييت وإن أمُـت |
|
فوصيّتي ذاكم إلـى إخـوانـي |
إذْ دِينـه دينـي ودينـي دينُــه |
|
ما كـنـت إمّـعَةً لـه دينـانِ |
وقال ابن طاهر: سمعت الإمام أبا إسماعيل الأنصاري بهراة يقول: عرضت على السيف خمس مرات، لا يقال لي: ارجع عن مذهبك، لكن يقال لي: اسكت عمن خالفك، فأقول: لا أسكت.
قال: وحكى لنا أصحابنا أن السلطان
"ألب أرسلان" حضر هراة، وحضر معه وزيره أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق،
فاجتمع أئمة الفريقين من أصحاب الشافعي، وأصحاب أبي حنيفة، للشكاية من الأنصاري،
ومطالبته بالمناظرة. فاستدعاه الوزير. فلما حضر قال: إن هؤلاء القوم اجتمعوا
لمناظرتك: فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق معهم: إما أن ترجع،
وإما أن تسكت عنهم. فقام الأنصاري وقال: أنا أناظر على ما في كمَّيَّ. فقال له:
وما في كميك? فقال: كتاب الله، وأشار إلى كمه اليمين، وسنة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأشار إلى كمه اليسار، وكان فيه الصحيحان. فنظر إلى القوم كالمستفهم لهم،
فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذه الطريق.
قال: وسمعت أحمد بن أميرجه القلانسي خادم الأنصاري يقول: حفرت مع الشيخ للسلام على
الوزير أبي علي الطوسي، وكان أصحابه كلفوه بالخروج إله، وذلك بعد المحنة، ورجوعه
من بلخ، فلما دخل عليه أكرمه وبَجَّلَه، وكان في العسكر أئمة من الفريقين في ذلك
اليوم، وقد علموا أنه يحضر، فاتفقوا جميعًا على أن يسألوه عن مسألة بين يدي
الوزير: فإن أجاب بما يجيب به بهراة سقط من عين الوزير وإن لم يجب سقط من عيون
أصحابه وأهل مذهبه. فلما دخل واستقر به المجلس انتدب له رجل من أصحاب الشافعي، يعرف
بالعلوي الدبوسي، فقال: يأذن الشيخ الإمام في أن أسأل مسألة? فقال: سل، فقال: لمَ
تَلعَنُ أبا الحسن الأشعري? فسكت، وأطرق الوزير لِمَا عَلِمَ من جوابه. فلما كان
بعد ساعة، قال له الوزير: أجبه، فقال: لا أعرف الأشعري. وإنما ألعنُ من لم يعتقد
أن اللّه عز وجل في السماء، وأن القرآن في المصحف، وأن النبي اليوم نبي. ثم قام
وانصرف، فلم يمكن أحد أن يتكلم بكلمة من هيبته وصلابته وصولته. فقال الوزير للسائل
ومن معه: هذا أردتم? كنا نسمع أنه يذكر هذا بهراة فاجتهدتم حتى سمعناه بآذاننا: ما
عسى أن أفعل به. ثم بعث خلفه خلعًا وصله فلم يقبلها. وخرج من فوره إلى هراة ولم
يلبث.
قال ابن طاهر: وسمعت أصحابنا بهراة يقولون: لما قدم السلطان "ألب
أرسلان" هراة في بعض قدماته اجتمع مشايخ البلد ورؤساؤه، ودخلوا على الشيخ أبي
إسماعيل الأنصاري، وسلموا عليه، وقالوا: قد ورد السلطان، ونحن على عزم أن نخرج
ونسلم عليه، فأحببنا أن نبدأ بالسلام على الشيخ الإمام، ثم نخرج إلى هناك. وكانوا
قد تواطأوا على أن حملوا معهم صنمًا من الصُّفْر صغيرًا، وجعلوه في المحراب تحت
سجادة الشيخ. وخرجوا وخرج الشيخ من ذلك الموضع إلى خلوته.
ودخلوا على السلطان واستغاثوا من الأنصاري، وقالوا له: إنه مجسم. فإنه يترك في
محرابه صنمًا، ويقول: إن اللّه عز وجل على صورته. وإن يبعث السلطان الآن يجد الصنم
في قبلة مسجده. فعظم ذلك على السلطان، وبعث غلامًا ومعه جماعة. ودخلوا الدار،
وقصدوا المحراب، وأخذوا الصنم من تحت السجادة، ورجع الغلام بالصنم، فوضعه بين يدي
السلطان. فبعث السلطان بغلمان، وأحضر الأَنصاري: فلما دخل رأى مشايخ البلد جلوسًا،
ورأى ذلك الصنم بين يدي السلطان مطروحًا، والسلطان قد اشتد غضْبه. فقال له: ما
هذا? قال: هذا صنم يعمل من الصفر شِبه اللُّعبة. فقال: لستُ عن هذا أسألك، فقال.
فعن ماذا يسأل السلطان. قال: إنَّ هؤلاء يزعمون أنك تعبد هذا الصنم، وأنت تقول: إن
اللّه عز وجل على صورته، فقال الأنصاري: سجانك هذا بهتان عظيم. بصوتٍ جَهوري
وصولة. فوقع في قلب السلطان أنهم كذبوا عليه، فأمِر به فأخرجَ إلى داره مُكرَمًا.
وقال لهم: اصدقوني القصة، أو أفعل بكم وأفعل، وذكر تهديدًا عظيماً، فقالوا: نحنُ
في يد هذا الرجل في بليةِ من استيلائه علينا بالعامة، وأردنا أن نقطع شرَّه عنا.
فأمر بهم، ووكل بكل واحدٍ منهم، ولم يرجع إلى منزله حتى كتب خطه بمبلغ عظيم من
المال يؤديه إلى خزانة السلطان جنَايَة، وسلموا بأرواحهم بعد الهوان العظيم.
وقد جرى لشيخ الإسلام محن في عمره، وشرد عن وطنه مدّة.
فمن ذلك: أن قومًا من المتصوفة بهراة
عَاثوا وأفسدوا بأيديهم على وجه الإنكار، فنسب ذلك إلى الشيخ، لم يكن بأمره ولا
رضاه. فاتفق أكابر أهل البلد على إخراج الشيخ وأولاده وخدمه، فأخرجوه يوم الجمعة
عشرين رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة قبل الصلاة، لم يمهل للصلاة. فأقام بقرب
البلد، فلم يرضوا منه بذلك فخرج إلى بوشنج، وكتب أهلُ هراة محضراً بما جرى وأرسلوه
إلى السلطان، فجاء جَواب السلطان ووزيره "نظام الملك" بإبعاد الشيخ
وأهله وخدمه إلى ما وراء النهر. وقرىء الكتاب الوارد بذلك في الجامع على منبر يحيى
بن عمار، وفيه حَطٌ على الشيخ، فأُخرج الشيخ ومن كان يعقد المجلس من أقاربه
خَاصَّة إلى مَرْوَ، ثم ورد الأمرُ بردِّه إلى بلخ، ثم إلى مرو الرُّوذ. ثم أذن له
في الرجوع إلى هراة، فَدَخَلها يوم الأربعاء رابع عشر المحرم سنة ثمانين
وأربعمائة. وكان يومًا مشهودًا.
قال الرهاوي: سمعت شيخنا أبا طاهر السلفي بالإسكندرية يقول: لما خر شيخ الإسلام
قال أصحابه وأهل البلد: لا يحمل على الدواب إلا على رقاب الناس. فجعل في محفة.
وكان يتناوب حملها أربعة رجال، حتى وصل بلخ. فخرج أهلها وهمُّوا برجمه. فردَّهم
ابن نظام الملك، وقال: تريدون أن تكونوا مسبة الدهر ترجمون رجلاَ من أهل العلم. ثم
سألوه أن يَعِظ، فقرأ: "اللّهُ نزَلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتابًا
مُتَشابِهًا" الزمر: 23، ثم قال: كلّ المسلمين يقولون هذا، إلاَّ أهل غُورجَه
وغرجِسْتان وفلانة وطالقان. لعنهم الله لعنةَ عاد وثمود، والنصارى واليهود.
قُولوا: آمين، فقالوا: آمين.
قال الرهاوي: وإنما همَّ أهل بلخ بما همُّوا به لأنهم معتزلة شديدة الاعتزال.
وكان شيخ الإسلام مشهوراً في الآفاق بالحنبلة والشدة في السنَّة.
قال: وسمعتُ السلفي يقول: لما أمر نظام الملك بإخراج الشيخ من هراة سمع بذلك الشيخ
مَعْمَر اللُّنباني، فمضى إلى نظام الملك في أمره، فقال له نظام الملك: قد صار
لذلك الشيخ عليَّ منة عظيمة حيث بِسَبَبِهِ دخلتَ عليَّ. ثم كتب في الحال بردّه
إلى بلده.
وذكر الرّهاويّ: أن الحسين بن محمد الكتبي ذكر في تاريخه: أن مسعود بن محمود بن
سبكتكين قدم هراة سنة ثلاثين وأربعمائة، فاستحضر شيخ الإسلام، وقال له: أتقول: إن
الله عزَّ وجل يضع قَدَمَه في النار? فقال- أطال اللهُ بقاء السلطان المعظم- إن
الله عز جل لا يتضرر بالنار والنار لا تضره والرسول لا يكذب عليه وعلماء هذه الأمة
لا يتزيدون فيما يَرْوُون عنه ويسندون إليه. فاستحسن جوابه، وردَّه مُكرَّماً.
قال: وعقد أهل هراة للشيخ مجلسًا آخر، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، وعملوا فيه
محضراً، وأخرجوه من البلد إلى بعض نواحي بوشنج، فحبس بها وقيَّد ثم أعيد إلى هراة
سنة تسع وثلاثين، وجلس في مجلسه للتذكير. ثم سعوا في منعه من مجلس التذكير عند
السلطان "ألب أرسلان" سنة خمسين.
قال. وفي شهور سنة اثنتين وستين، خلع على الشيخ من جهة الإمام القائم بأمر الله
خلعة شريفة، وفي شهور سنة أربع وسبعين خلعة أخرى فاخرة من جهة الإمام المقتدي مع
الخطاب واللقّب بشيخ الإسلام، شيخ الشيوخ زين العلماء أبي إسماعيل عبد الله بن
محمد الأنصاري، وخلعة أخرى لابنه عبد الهادي.
قال. وكان السبب في هذه الخلع الوزير "نظام الملك" شفقةَ منه على أصحاب
الحديث، وصِيَانةً عن لحوق شين بهم.
وكان الشيخ رحمه اللّه آيةٌ في التفسير، وحفظ الحديث. ومعرفته، ومعرفة اللغة
والأدب. وكان يُفَسِّر القراَن في مجلس التذكير.
فذكر الكتبي في تاريخه: أن الشيخ لما رجع من محنته الأولى ابتدأ في تفسير القراَن،
ففسره في مجالس التذكير، سنة ست وثلاثين. وفي سنة سبع وثلاثين افتتح القرآن يفسره
ثانيًا في مجالس التذكير.
قال: وكان الغالب على مجلسه القول في
الشرع، إلى أن بلغ إلى قوله عزَّ وَجَل: "والَذِينَ آمَنُوا أَشَذ حُبًّا
للّه" آل عمران: 165. فافتتح تجريد المجالس في الحقيقة، وأنقق على هذه الآية
من عمره مدة مديدة، وبنى عليها مجالس كثيرة. وكذلك قوله تعالى: "إنَّ
الَذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى" الأنبياء: 101، بنى عليها
ثلاثمائة وستين مجلساً. فلما بلغ قوله تعالى: "يَكَادُ سَنَا بَرْقه يَذْهَبُ
بِالأَبْصَارٍ" النور: 43، كُفَ بَصَرُه سنة ثلاث وسبعين، ولما بلغ إلى قوله
عز وجل: "فَلاَ تَعْلمُ نَفْسٌ مَا أُخْفيَ لَهُمْ مِنْ قرَةِ أَعْينٍ".
السجدة: 117 قال: في كل اسم من أسماء اللّه تعالى سر خفي. وَأخَذَ يُفسِّر خفايا
الأسماء حتى بلغ المميت، فأُخرج من البلد في الفتنة الأخيرة. فلما عاد سنة ثمانين،
عقد المجلس على أمر جديد، ولم يكمل الكلام على الأسماء الحسنى. وأخذ يستعجل في
التفسير، ويفسر في مجلس واحد مقدار عشر آيات أو نحوها، يريد أن يختم في حياته، فلم
يقدر له على ذلك وتوفي، وقد انتهى إلى قوله عزَ وجل: "قل: هُوَ نَبَأّ
عَظِيمٌ. أنتمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ" ص: 67، 68،.
وقال ابن طاهر الحافظ. سمعت شيخنا الأنصارِيَّ يقول: إذا ذكرتُ التفسيرَ فإنما
أذكرهُ من مائة وسبعة تفاسير. قال: وجرى يومًا- وأنا بين يديه- كلامٌ ، فقال: أنا
أحفظ اثني عشر ألف حديث أسردها سرداً، قال: وقطّ ما ذكر في مجلسه حديثاً إلا
بإسناده. وكان يشير إلى صحته وسقمه.
وقال الرهاوي: سمعت أبا بشر محمد بن محمد بن هبة الله الهمذاني بهمذان يقول: سمعتُ
بعض الأدباء يقول: سئل شيخ الإسلام الأنصاري عن تفسير آية. فأنشد أربعمائة بيت من
شعر الجاهلية في كل بيت منها لغة تلك الآية.
قال ابن الجوزي: أخبرنا ابن ناصر عن المؤتمن بن أحمد الحافظ، قال: كان عبد الله
الأنصاري لا يشذ على المذهب شيئًا، ويتركه كما يكون، ويذهب إلى قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لاَ تُوكِ فَيُوكَأ عليك" وكان لا يصوم شهر رجب، وينهى
عن ذلك، ويقول: ما صح في فضل رجب وفي صيامه شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان يملي في شعبان وفي رمضان، ولا يملي في رجب.
وقال بن طاهر الحافظ: سمدت أبا إسماعيل الأنصاري يقول: كتابُ أبي عيسى الترمذْي
عندي أفيدُ من كتاب البخاري ومسلم، فقلتُ: لِمَ. قال: لأن كتاب البخاري ومسلم لا
يصل إلى الفائدة منهما إلا من يكون من أهل المعرفة التامة. وهذا كتاب قد شرح
أحاديثه وبينها، فَيَصِل إلى فائدته كل أحد من الناس من الفقهَاء والمحدثين
وغيرهم. قال: وسمعتُه يقول: المحدّث يجب أن يكون سريعَ المشي، سريع الكتابة، سريعَ
القراءة.
قال الرُّهاوي: سمعتُ السلفي يقول: سمعتُ أبا الخير عبد الله بن مرزوق الهَرويَ
يقول: سمعتُ أبا إسماعيل الأنصاري الحافظ بهراة يقول: ينبغي لمن يكون من أهل الفقه
أن يكون له أبدًا ثلاثة أشياء جديدة: سراويلُه، ومداسُه، وخرقةٌ يُصلي عليها.
قال الرُّهاوي: وسمعتُ بعض الناس بهراة يحكي: أن شيخ الإسلام دخل يومًا على القاضي
أبي العلاء صاعد بن سيار، وعلى يمينه رجل من البُوسَعْدِية، فجلس شيخ الإسلام على
يسار القاضي، فغضب البوسعدي، وقال: أجلسُ عن يمينك ويجلسُ عن يسارك. فوثب شيخ
الإسلام، وجلس ناحيةً، وقال: الحِدّةُ ينبغي أن تكون في، أكل البصل، والشدّة في
تشقيق الحطب. وأما الجلوس في المجالس فإنما يكون بالعلم. وغضب القاضي من كلام
الرجل، وقال: إيش تنكر من حاله? حيث لم يكن له مركوب ولا ثياب، وأمر له بثياب
ومركوب، وجعل له في الجامع موضعًا يعظُ فيه.
قال الرُّهاوي: وقد رأيتُ كرسي شيخ الإسلام قليل المراقي في زاوية من جامع هراة،
والناس يتبركون به.
وقاد ابن طاهر: سألت الأنصاري عن الحاكم أبي عبد اللّه? فقال: ثقة في الحديث،
رافضي خبيث.
وذكر ابن السمعاني عن يحيى بن منده عن
عبد الله بن عطاء الإبراهيمي قال: سمعت شيخ الإسلام الأنصاريّ قال: سألتُ أبا
يعقوب الحافظ عن قول البخاري في الصحيح: قال لي فلان? قال: هو راوية بالإجازة، ثم
قال شيخ الإسلام: عندي أن ذاك الرجل ذاكر البخاري في المذاكرة: أنه سمع من فلاَن
حديث كذا، وكتاب كذا، أو مسند كذا، أو حديث فلان، فيرويه بين المسموعات وهو طريق
حسن، طريق مليح. ولا أحد أفضل من البخاري.
وقال المؤتمن الساجي: كان يدخل عليه الجبابرة والأمراء، فما كان يبالي بهم. ويرى
بعض أصحاب الحديث من الغرباء فيكرمه إكراماً يعجب منه الخاصُ والعامّ رحمة الله.
قال صاعد بن سيار الهرّوي في أماليه: سمعتُ شيخ الإسلام الأنصاري يقول: إلهي عصمة
أو مغفرة، فقد ضاقت بنا طريق المعذرة.
وقد أثنى على الشيخ الإمام أبي إسماعيل شيوخُهُ وأقرانه. ومن دونه من الفقهاء،
والمحدثين والصوفية، والأدباء وغيرهم. وقد سبق في ترجمة عبد الرحمن بن منده قول
سعد الزنجاني فيه: إنّ الله حفظ به الإسلامَ، وبابن منده.
وقال الرُّهاوي: سمعتُ بهراة: أن شيخ الإسلام لما أخرج من هراة، ووصل إلى مرو،
وأذن له في الرجوع إلى هراة، رجع ووصل إلى مرو الروذ، قصده الإمام أبو محمد الحسين
بن مسعود البغوي الفْرَّاء صاحب التصانيف. فلما حضر عنده قال لشيخ الإسلام: إن
اللّه قد جمع لك الفضائل، وكانت قد بقيت فضيلة واحدة، فأراد أن يكملها لك، وهي
الإخراج من الوطن، أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الرَّهاوي: وسمعتُ أبا عبد اللّه سفيان بن أبي الفضل الخرقي السفياني وكان من
أهل الحديث والفضل والدّين، وكان سفياني المذهب يقول: سمعتُ الحافظ أبا مسعود
كوتاه يقول: سمعتُ أبا الوقت عبد الأول بن عيسى يقول: دخلتُ على الجويني يعني أبا
محمد عبد اللّه بن يوسف الفقيه- فسألني عن شيخ الإسلام? فقلت. أنا خادمُه. فقال:
رضي اللّه عنه.
قال الرُّهاوي: وذكر الحسين بن محمد الكتبي الهرويّ في تاريخه: أنَ شيخ الإسلام
الأنصاري سافر إلى نيسابور سنة سبع عشرة وأربعمائة، طالبًا للحديث والفقه، ورؤية
المشايخ، والاستفادة منهم، والتبرك بصحبتهم ورجع في تلك السنة. ثم سافر ثانيًا
للحج مع الفقيه الإمام أبي الفضل بن أبي سعد الزاهد الواعظ، ومعهما خلقٌ كثير سنة
ثلاث وعشرين. فلما وردوا نيسابور أخرج الإمام أبو عثمان الصابوني لخاله الإمام أبي
الفضل بن أبي سعد الزاهد مجلسًا في الحديث ليمليه بنيسابور، فنظر فيه الأنصاري
ونبَّه على خلل في رجال الحديث وقع فيه. فقبل الصابوني قوله، وعاد إلى ما قال،
وأحسن الثناء عليه، وأظهر السرور به، وهنأ أهل العصر بمكانه، وقال: لنا جمال،
ولأهل السنة مكانة، وانتفاع المسلمين بعلمه ووعظه. وكان ذلك بمشهد من مشايخ فيهم
كثرة، وشهرة وبصيرة.
قال صاحب التاريخ: وكنتُ حاضرًا يومئذٍ. قال: وسمعتُ الإمام عبد اللّه الأنصاري
بنيسابور يقول: دخلتُ على الإمام ناصر المروزي بنيسابور، وكان مجلسه غاصًا
بتلامذته، واحتفَّ به الفقهاء، وكان يدرّس ويقول: رُوي عن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه: أنه كان يقرأ في الركعة الثالثة من صلاة المغرب: "ربِّ زِدْنِي
عِلْمًا" طه: 114. فقلت- أيد الله الشيخ الإمام-: أحديثُ عهد أنت بهذا الحديث
وهو على ذكرك? فقال: لا، فقلتُ: كان يقرأ في الركعة الثالثة من صلاة المغرب:
"ربَّنا لاَ تُزغْْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا" آل عمران: 8،
فقال: صدقتَ ورجع إلى قولي، وحثَّ القوم على إثباته وتعليقه. ثم بكرتُ إليه من غد
هذا اليوم، فرحب بي، وأعلى محَلِّي، وأجلسني فوق جماعة زهاء سبعين، كنتُ بالأمس
جالسًا دونهم، ومدحتُه بقصيدةٍ، ووَاظبْتُ على الاختلاف إليه وأخذ الفقه عنه مدة.
قال صاحب التاريخ: ورجع الشيخ من حرقات، والريّ عن زيارة الشيخ أبي الحسن
الحرقاني، وكان الحرقاني أحسن الثناء عليه، ولاَطَفه في المخاطبة سنة أربع وعشرين.
قال: ولقي الشيخ بنيسابور الشيخ أبا عبد اللّه بن باكويه الشيرازي، وتكلم بين
يديه. فرضي ابن باكويه قوله، واستحسن في الحقيقة كلامه، وبشر بأيامه، فلما عزم على
الخروج من عنده قال: إلى أين. قال: نَويتُ سفرًا. قال: لست من بابة السفر، بل
بابَتُكَ أن تعقد حلقة تكلمهم على الحق.
قال صاحب التاريخ: وكان إسحاق
القَرَّاب الحافظ يَتأمل ما كان يخرجه الأنصاري، وكذلك إسماعيل الصابوني. قال:
وكلهم تعجبوا من تخريجه، وأعجبوا به، وأثنوا على الشيخ عبد الله الأنصاري،
واغتبطوا بمكانه، ودعوا له بالخير. وكان من عادة إسحاق القراب الحافظ الحَث على
الاختلاف إلى الأنصاري، والبَعث على القراءة عليه، واستماع الأحاديث بقراءته،
والاستفادة منه، والمواظبة على مجلسه، والاختيار له على غيره. وكادْ يقول: لا يمكن
أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم كاذب من الناس، وهذا الرجل في الإحياء.
قال: وكلٌّ من لقيت من أهل هراة وفي سائر البلدان، حين خرجت مسافرًا، ومن سمعت
يخبر منهم في الآفاق من القضاة والأئمة والأفاضل، والمذكورين، كانوا يحسنون الثناء
عليه، ولا ينكرون فضله.
وقال الرُّهاوي: سمعتُ أبا بشر محمد بن محمد الهمذاني يقول: سمعتُ شيخي عبد الهادي
الذي أخذت عنه العلم يقول: عبدُ الله الأنصاري يُعدُّ في العبادلة. قال الرُّهاوي:
عبد الهادي هذا من أئمة همذان.
وقد ذكر أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في تاريخ هراة شيخ الإسلام
الأنصاري، فقال: كان بكر الزمان، وزناد الفلك، وواسطة عقد المعاني والمعالي، وصورة
الإقبال في فنون الفضائل، وأنواع المحاسن.
منها: نصرة الدين والسنة، والصلابة في قهر أعداء المِلّة، والمتحلين بالبدعة. حيي
على ذلك عمره، من غير مداهنة ومراقبة لسلطانٍ ولا وزيرٍ، ولا ملاينةِ مع كبير ولا
صغير. وقد قاسى بذلك السبب قصد الحساد في كل وقت وزمان، ومُنى بكيد الأعداء في كل
حين وأوان، وسعوا في روحه مِرارًا، وعمدُوا إلى هلاكه أطوارًا، مقدرين بذلك الخلاص
من يده ولسانه، وإظهار ما أضمروا في زمانه. فوقاه الله شرهم، وأحاط بهم مكرهم،
وجعل قصدهم لارتفاع أمره، وعلو شأنه، أقوى سبب. وليس ذلك من فضل الله تعالى ببدع
ولا عجب "إن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثّبتْ أَقدَامَكُمْ"
محمد: 17.
وأما قبوله عند الخاص والعام، واستحسان كلامه، وانتشاره في جميع بلاد الإسلام،
فأظهر من أن يقام عليه حجة وبرهان، أو يختلف في سَبقه وتَقَدمه فيها من الأئمة
اثنان. ولقد هذَب أحوال هذه الناحية عن البدع بأسرها، ونقح أمورهم عما اعتادوه
منها في أمرها، وحَمَلهُم على الاعتقاد الذي لا مطعن لمسلمٍ بشيء عليه، ولا سبيل
لمبتدع إلى القَدح إليه.
ومنها: تصانيفه التي حاز فيها قصب السبق بين الأضراب، وذكرها في باب المصنفين من
الكتاب.
وذكره أيضا الإمام أبو الحسين عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي، خطيب نيسابور في
تاريخ نيسابور، فذكر اسمه ونسبه، وقال: أبو إسماعيل الإمام شيخ الإسلام بهراة،
صاحب القبول في عصره، والمشهور بالفضل وحُسن الوَعظ والتذكير في دهره. لم يرَ أحد
من الأئمة في فنه حلمًا ما رآه عيانًا من الْحِشمَة الوافرة القاهرة، والرونق
الدائم، والاستيلاء على الخاص والعام، في تلك الناحية واتْساق أمور المريدين
والأتباع، والغالين في حقه، والتئام المدارس والأصحاب والخانقاه، ونواب المجالس،
إلى غير ذلك مما هو أشهر من أن يحتاج إلى الشرح.
وكان على حظ تام من العربية ومعرفة الأحاديث والأنساب والتواريخ، إمامًا كاملاً في
التفسير والتذكير، حَسَن السيرة والطريقة في التصوف ومباشرة التصوف ومعاشرة
الأصحاب الصوفية. مظهر السنة، داعيًا إليها محرضًا عليها. غير مشتغل بكسب الأسباب
والضياع العقار، والتوغل في الدنيا. مكتفيًا بما يباسط به المريدين والأتباع من
أهل مجلسه في السنة مرة أو مرتين. حاكمًا عليها حكمًا نافذًا بما كان يحتاج إليه
هو وأصحابه من السنة إلى السنة على رأس الملأ. فيحصل على ألوف من الدنانير بها،
وأعداد جمة من الثياب والحلى وغير ذلك. فيجمعها ويفرقها على الخبَّاز، والبقّال،
والقصَّاب، وينفق منها موسعًا فيها من السنة إلى السنة، ولا يأخذ من السلاطين
والظلمة والأعوادْ وأركان الدولة شيئًا. وقلَّما يراعيهم. ولا يدخل عليهم ولا
يبالي بهم. فبقي عزْيزًا مقبولاً، قبولاً أتم من الملك على الحقيقةْ، مطاع الأمر
قريبًا من ستين سنة، من غير مزاحمة ولا فتور في الحال.
ومن خصائصه: أنه كان إذا
حضر المجلس لبس الثياب الفاخرة، وركب الدواب الثمينة، والمراكب المعروفة، وتكلَّف
غاية التكلف، ويقول: إنما أفعلُ هذا إعزازًا للدَّين، ورغمًا لأعدائه، حتى ينظروا
إلى عزِّي وتجملي، فيرغبوا في الإسلام إذا رأوا عزه. ثم إذا انصرف إلى بيته عاد
إلى المرقّعة والقعود مع الصوفية في الخانقاه، يأكل معهم ما يأكلون، ويلبسُ ما
يلبسون، ولا يتميز في المطعوم والملبوس عن اَحادهم. على هذا كان يزجي أيامه. وكل
ما نقل عنه من سيرته محمود.
ومن جملة ما أخذه أهل هراة عنه من محاسن سيرته: التبكيرُ بصلاة الصبح، وأداءُ
الفرائض في أوائل أوقاتها، واستعمالُ السّنن والأدب فيها.
ومن ذلك: تسميةُ الأولاد في الأغلب بالعبد، المضاف إلى اسم من أسماء اللّه تعالى:
كعبد الخالق، وعبد الخلاق، وعبد الهادي، وعبد الرشيد، وعبد المجيد، وعبد المعز
وعبد السلام. إلى غير ذلك مما كان يحثّهم ويدعوهم إلى ذلك، فتعوَّدوا الجريَ على
تلك السنة، وغير ذلك من اَثاره.
ثم ذكر بعضَ شيوخه، ثم قال: أنشدَني أبو القاسم أسعد بن علي البارع الزوزني لنفسه
في الإمام، وقد حضر مجلسه:
وقالوا: رأيتَ كعبـد الإلـهِ |
|
إماماً إذا عَقَد المجلـسـا? |
فقلتُ: أما إننـي مـا رأيْ |
|
تُ ولم يلق قبلي ممن عسى |
فقالوا: يجيءُ نـظـيرٌ لـه |
|
فقلت: كمستقبلٍ مِنْ عَسـى |
قال عبد الغافر: وقرأتُ في "دمية القصر لأبي الحسن الباخرزي"
فصلاً في الإمام عبد اللّه الأنصاري، وذلك أنه قال: هو في التذكير في الدرجة
العليا، وفي علم التفسير أوحد الدنيا. يعظ فيصطاد القلوب بحسن لفظه، ويمحص الذنوب
بيمن وعظه. ولو سمع قسُّ بن ساعدة تلك الألفاظ، لما خطب بسوق عُكاظ.
ثم ذكر بيتين للإمام عبد الله في نظام الملك، وهما:
بِجاهك أدْرَكَ المظلومُ ثارَهْ |
|
ومَنِّك شَادَ بَانِي العدلِ دارَهْ |
وقبلَك هُنّىءَ الوُزراءُ حتَّى |
|
نهضتَ بها فهُنِّئتِ الوزارَهْ |
ثم قال: وحضرتُ يومًا مجلسه، بهراة، مع أبي عاصم الحسين بن محمد بن الفضيلي
الهرويّ شيخ الأفاضل بهراة. فلما طاب فؤادُه، وعرق جوادُه وطنَّت نَقراتُ العازفين
في جو السماء، ودنت الملائكة فتدَلَّت للإصغاء.
قال أبو العاصم:
عيونُ النَّاسِ لم تـل |
|
ق ولا تلقى كعبد الله |
ولا يُنكر هـذَا غَـي |
|
ر من مالَ عن اللـه |
قال الباخرزي: فقلتُ أنا:
مجلسُ الأستاذِ عبد الله |
|
روضُ العارفـينـا |
ألحق الفَخـر بـنـا |
|
بعد حكم العارِفينـا |
قال عبد الغافر: وفي المنقولات من أخباره وآثاره، وما قيل فيه من الأشعار،
وما نقل عنه من العبارات كثير. وفي هذا القدر دليل على أمثالها.
وقال شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية في كتاب "الأجوبة المصرية": شيخ
الإسلام مشهورٌ معظم عند الناس. هو إمام في الحديث والتصوف والتفسير. وهو في الفقه
على مذهب أهل الحديث، يعظّم الشافعي، وأحمد. ويقرن بينهما في أجوبته في الفقه ما
يوافق قول الشافعي تارة وقول أحمد أخرى. والغالبُ عليه اتباعُ الحديث على طريقة
ابن المبارك ونحوه.
قال: وقال الشيخ أبو الحسن الكرخي، شيخ الشافعية في بلاده، في كتابه "الفصول
في الأصول": أنشدني غير واحدٍ من الفضلاء للإمام عبد اللّه بن محمد الأنصاري،
أنه أنشد في معرض النصيحة لأهل السنة:
كُنْ إذا ما حَادَ عَن حدِّ الهُدى |
|
أشْعرِيّ الرأي شيطان البَشَرْ |
شافعيّ الشَرع، سنّي الحُلـى |
|
حنبلي العقد، صوفيَّ السِّيَرْ |
ومن شعر شيخ الإسلام مما أنشده الرهاوي بأسناده عنه:
سُبحان من أجْملَ الحُسنى لطالبها |
|
حتى إذا ظهرتْ في عبده مُدِحَا |
ليس الكريمُ الذي يُعطى لتمدَحه |
|
إنَّ الكريمَ الَذي يُثنى بما منحـا |
وأنشد له:
نهواك نحن ونحن منك نـهـابُ |
|
أهَوّى وخوفاً إنَ ذاك عُجـابُ! |
شخص العقول إليك ثم استحسرتْ |
|
وتحيرتْ في كنهـك الألـبـابُ |
قلتُ: ولشيخ الإسلام شعر كثير حَسَنٌ جدًّا. ولأجل هذا ذكره الباخرزي الأديب في كتابه "دمية القصر في شعراء العصر" وله كلام في التصوف والسلوك دقيق.
وقد اعتنى بشرح كتابه
"منازل السائرين" جماعةٌ. وهو كثير الإشارة إلى مقام الفناء في توحيد
الربوبية، واضمحلال ما سوى الله تعالى في الشهود لا في الوجود. فيتوهم فيه أنه
يشير إلى الاتحاد حتى انتحله قوم من الاتحادية، وعظموه لذلك. وذمَّه قومٌ من أهل
السنة، وقدحوا فيه بذلك. وقد برأه اللّه من الاتحاد. وقد انتصر له شيخُنا أبو عبد
الله بن القيم في كتابه الذي شرح فيه "المنازل" وبيّن أن حمل كلامه على
قواعد الاتحاد زور وباطل.
تُوفي رحمه اللّه تعالى يوم الجمعة بعد العصر ثاني عشرين في الحجة سنة إحدى
وثمانين وأربعمائة. ودُفن يوم السبت بِكَازِيَارِكَاه- مقبرة بقرب هَراة-.
وكان يومًا كثير المطر، شديد الوحل. وقد كان الشيخ يقول في حياته: إن استأثر الله
بي في الصيف فلا بد من نطع مخافة المطر، فصدق اللّهُ ظنه في ذلك.
حدَّث عنه جماعة من الحفاظ وغيرهم كالمؤتمن الساجي ومحمد بن طاهر وأبي نصر الغازي،
وأبي الوقت السجزي، وأبي الفتح الكروخي.
قرأتُ على أبي حفص عمر بن علي القزويني ببغداد: أخبركم أبو عبد الله محمد بن أبي
القاسم المقرىء وأخبرنا الربيع عليّ بن عبد الصمد بن أحمد البغدادي بها قراءة
عليه، وأنا في الخامسة، أخبرنا والدي أبو أحمد عبد الصمد قالا: أخبرنا أبو الحسن
علي بن أبي بكر بن رُوزَبَة، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي، أخبرنا
شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن العالي
البوشنجي، أخبرنا أبو أحمد الغطريفي، ومنصور بن العباس الفقيه قالا: أخبرنا الحسن
بن سفيان حدثنا أبو صالح الحكم بن موسى، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سليمان
التيمي، عن أبي عثمان- وليس بالنهدي- عن معقل بن يسار: أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "اقرأوها عَلَى مَوْتَاكُمْ" يعني: يَس.
وبالإسناد الأول إلى شيخ الإسلام، أنشدنا يحيى بن عمار أنشدني أبو المنذر محمد بن
أحمد بن جعفر الأديب، أنشدني الصولي لأبي العباس ثعلب:
رُبَ ريحٍ لا ناسٍ عَصَفَتْ |
|
ثمَ ما إنْ لبثت أن رَكَدتْ |
وكذاك الدَّهرُ في أفعالـه |
|
قَدمٌ زلَتْ وأُخرى ثبتـتْ |
بالغٌ ما كان يرجو دونـه |
|
ويَدٌ عما استقلت قَصُرَتْ |
وكذا الأيامُ من عاداتـهـا |
|
أنَها مُفسِدةٌ ما أصلحـتْ |
ثمَّ تأتيكَ مقـاديرُ لـهـا |
|
فترى مُصلِحة ما أفْسدتْ |
?عبد الواحد بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازي
ثم المقدسي، ثم الدمشقي، الفقيه
الزاهد، أبو الفرج الأنصاري، السعدي العُبادي الخزرجي، شيخ الشام في وقته: قرأتُ
بخط بعض طلبة الحديث في زماننا قال: أخرج إليَّ شيخُنا يوسف بن يحيى بن عبد الرحمن
بن نجم بن عبد الوهاب ابن الشيخ أبي الفرج نسب جده: وهو أبو الفرج عبد الواحد بن
محمد بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن يعيش بن عبد العزيز بن سعيد بن سعد بن عبادة. كذا
رأيته. ويوسف هذا أدركته. وسمعتُ منه جزءًا عن أبيه عن الخشوعي.
ولكن قرأتُ بخط جده ناصح الدين عبد الرحمن بن نجم قال: كتبتُ إلى الشريف النسَّابة
ابن الجواني كتابًا إلى مصر أسأله: هل نحن من ولد قيس بن سعد أو من أخيه? فجاءني
خطه في جزء يقول: قيسُ بن سعد انقرض عقبه. وحكاه عن جماعة من النسابين، مثل ابن
شجرة وابن طباطبا وغيرهما. وقال: إنما أنتم من ولد أخيه عبد العزيز بن سعد بن
عبادة. ورفع نسب سعد بن عبادة إلى اَدم عليه السلام.
وهذا يدل على أن "الناصح" لم يكن يعرف نسبهم إلى سعد، ولا ذكر أن
النسابة كتب له ذلك، وإنما كتب له نسب سعد إلى آدم، وأيضًا فقد قال له: أنتم من
ولد عبد العزيز بن سعد بن عبادة. وفي هذا النسب المذكور: عبد العزيز بن سعيد بن
سعد بن عبادة. وهذا مخالف لما قال ابن الجواني.
لكن ذكر "الناصح" أن أباه وجماعة من العلماء اجتمعوا ليلةً عند السلطان
صلاح الدين في خيمة، مع الشريف الجواني هذا، فقال السلطان: هذا الفقيه- يشير إلى
والد "الناصح"- ليس في آبائه وأجداده صاحب صنعة إلا أمير أو عالم إلى
سعد بن عبادة. وهذا يدل على أنه كان يعرف نسبهم إلى سعد بن عبادة. والله أعلم.
ثم رأيت الشريفَ عز الدين أحمد بن محمد
الحسيني الحافظ صاحب "صلة التكملة في وفيات النقلة" ذكر نسب الشيخ أبي
الفرج إلى سعد مثل ما أخرجه شيخنا يوسف سواء، إلا أنه قال عبد العزيز بن سعد بن
عبادة، بلا واسطة بينهما ولقّب أباه محمدًا بالصافي.
تفقه الشيخ أبو الفرج ببغداد على القاضي أبي يعلى مدة، وقدم الشام فسكنِ ببيت
المقدس، فنشر مذهب الإمام أحمد فيما حوله. ثم أقام بدمشق فنشر المذهب وتَخرج به
الأصحاب، وسمع بها من أبي الحسن السمسار، وأبي عثمان الصابوني ووعظ، واشتهر أمره،
وحصل له القبول التام.
وكان إمامًا عارفًا بالفقه والأصول، شديدًا في السنة، زاهدًا عارفًا، عابدًا
متألهًا، ذا أحوال وكرامات. وكان "تتش" صاحب دمشق يعظِّمه.
قال أبو الحسين في الطبقات: صحب الوالد من سنة نيف وأربعين وأربعمائة وتردد إلى
مجلسه سنين عدة، وعلق عنه أشياء في الأصول والفروع، ونسخ واستنسخ من مصنفاته.
وسافر إلى الرحبة والشام وحصل له الأصحاب والأتباع والتلامذة والغلمان. وكانت له
كرامات ظاهرة، ووقعات مع الأشاعرة، وظهر عليهم بالحجة في مجالس السلاطين ببلاد
الشام. ويقال: إنه اجتمع مع الخضر عليه السلام دفعتين.
وكان يتكلم في عدة أوقات على الخاطر كما كان يتكلم ابن القزويني الزاهد. فبلغني:
أن "تتشا" لما عزم على المجيء إلى بغداد في الدفعة الأولى لما وصلها
السلطان سأله الدعاء? فدعا له بالسلامة، فعاد سالمًا. فلما كان في الدفعة الثانية
استدعى السلطان وهو ببغداد لأخيه "تتش" فَرُعِب وسأل أبا الفرج الدعاء
له فقال له: لا تراه ولا تجتمع به. فقال له "تتش": وهو مقيم ببغداد، وقد
برزت إلى عنده، ولا بد من المصير إليه. فقال له: لا تراه، فعجب من ذلك، وبلغ
"هِيتَ" فجاءه الخبر بوفاة السلطان ببغداد، فعاد إلى دمشق وزادت حشمة
أبي الفرج عنده ومنزلته لديه.
وبلغني أن بعض السلاطين من المخالفين كان أبو الفرج يدعو عليه، ويقول: كم أرميه
ولا تقع الرمية به. فلما كان في الليلة التي هلك ذلك المخالف فيها، قال أبو الفرج
لبعض أصحابه: قد أصبت فلانًا وقد هلك، فورِّخَت الليلة، فلما كان بعد بضعة عشر
يومًا ورد الخبر بوفاة ذلك الرجل في تلك الليلة التي أخبر أبو الفرج بهلاكه فيها.
قال: وكان أبو الفرج ناصرًا لاعتقادنا، متجردًا في نشره، مبطلاً لتأويل أخبار
الصفات. وله تصنيف في الفقه والوعظ والأصول.
وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج قال: حدثنا
الشريف الجواني النسَّابة عن أبيه قال: تكلم الشيخ أبو الفرج- أي الشيرازي الخزرجي-
في مجلس وعظه، فصاح رجلَ متواجدًا، فمات في المجلس. وكان يومًا مشهودًا. فقال
المخالفون في المذهب: كيف نعمل إن لم يمت في مجلسنا أحدٌ، وإلا كان وهنًا. فعمدوا
إلى رجل غريب، دفعوا له عشرة دنانير، فقالوا: احضر مجلسنا، فإذا طاب المجلس فصح
صيحة عظيمة، ثم لا تتكلم حتى نحملك ونقول: مات. ونجعلك في بيت، فاذهب في الليل،
وسافر عن البلد. ففعل، وصاح صيحة عظيمة، فقالوا: مات، وحُمل. فجاء رجل من
الحنابلة، وزاحم حتى حصل تحتَه، وعَصَرَ على خُصاه، فصاح الرجل فقالوا: عاش، عاش.
وأخذ الناس في الضحك، وقالوا المحال ينكشف.
قال الناصح: وكان الشيخ موفق الدين المقدسي يقول: كلُّنا في بركات الشيخ أبي
الفرج. قال: وحدثني ونحن ببغداد قال: لما قدم الشيخ أبو الفرج إلى بلادهمِ من أرض
بيت المقدس تسامح الناس به فزاروه من أقطار تلك البلاد قال: فقال جدِّي قدامة
لأخيه: تعال نمشي إلى زيارة هذا الشيخ لعله يدعو لنا. قال: فزاروه، فتقدم إليه
قدامة فقال له: يا سيدي، ادع لي أن يرزقني الله حفظَ القراَن. قال: فدعا له بذلك،
وأخوه لم يسأله شيئًا، فبقي على حاله. وحَفِظَ قدامة القراَن. وانتشر الخبر منهم
ببركات دعوة الشيخ أبي الفرج.
للشيخ أبي الفرج تصانيف عدة في الفقه والأصول.
منها: "المبهج" و "الإيضاح" و "التبصرة في أصول
الدين" و "مختصر في الحدود، وفي أصول الفقه، ومسائل الامتحان"
وقرأت بخط الناصح عبد الرحمن بن نجم بن
عبد الوهاب بن الشيخ قال: سمعت والدي يقول: للشيخ أبي الفرج "كتاب
الجواهر" وهو ثلاثون مجلدة يعني: في التفسير. قال: وكانت بنت الشيخ تحفظه،
وهي أم زين الدين علي بن نجا الواعظ، الآتي ذكره إن شاء اللّه تعالى.
قال أبو يعلى بن القلانسي في تاريخه في حق الشيخ أبي الفرج: كان وافر العلم، متين
الدين، حسن الوعظ، محمود السمت.
توفي يوم الأحد ثامن عشرين في الحجة، سنة ست وثمانين وأربعمائة بدمشق.
ودفن بمقبرة الباب الصغير، وقبره مشهور يزار.
وللشيخ رحمه الله ذرية. فيهم كثير من العلماء، نذكرهم إن شاء اللّه تعالى في
مواضعهم من هذا الكتاب، يعرفون ببيت ابن الحنبلي.
وقد ذكر الشيخ موفق الدين في المغني، والشيخ مجد الدين بن تيمية في شرح الهداية،
عن أبي الفرج المقدسي: أن الوضوء في أواني النحاس مكروه وهو هذا.
وذكرا عنه أيضًا: أن التسمية على الوضوء يصح الإتيان بها بعد غسل بعض الأعضاء، ولا
يشترط تقدمها على غسلها. وقد نسب أبو المعالي بن المنجا هذا في كتابه
"النهاية" إلى أبي الفرج بن الجوزي. وهو وَهمٌ.
وله غرائب كثيرة.
فمنها: أنه نقل في الإيضاح رواية عن أحمد: أن مس الأمرد لشهوةٍ ينقض.
ومنها: أن المسافر إذا مسح في السفر أكثر من يوم وليلة، ثم أقام، أو قدم: أتم مسح
مسافر.
ومنها: أن الجنب يكره له أن يأخذ من شعره وأظفاره. ذكره في الإيضاح وهو غريب.
مخالف لمنصوص أحمد في رواية جماعة.
ومنها: حكى في وجوب الزكاة في الغزلان روايتين.
ومنها: أنه خرّج وجهًا: أنه يعتبر لوجوب الزكاة في جميع الأموال: إمكان الأداء، من
رواية اعتبار إمكان الأداء لوجوب الحج.
ومنها: ما قاله في الإيضاح: إذا وقف أرضًا على الفقراء والمساكين: لم يجب في
الخارج منها العشر، وإن كان على غيرهم: وجب فيها العشر. وللإمام أحمد نصوص تدل على
مثل ذلك. وهو خلاف المعروف عند الأصحاب.
ومنها: ما قاله في الإيضاح أيضًا، قال: والصداق يجب بالعقد ويستقر جميعه بالدخول،
ولو أسقطت حقها من الصداق قبل الدخول: لم يسقط لأنه إسقاط حق قبل استقراره، فلم
يسقط كالشفيع إذا أسقط حقه قبل الشراء. هذا لفظه. وهو غريب جدًا.
ومنها: أنه ذكر في المبهج في آخر الوصايا: إذا قال لعبده: إن أدّيتَ إليَّ ألْفًا
فأنت حرٌ، ثم أبرأه السَّيِّد من الألف. عتق فجعل التعليق كالمعاوضة ولأحمد في
رواية أبي الصقر ما يَدُلّ عليه.
وذكر في كتاب الزكاة من المبهج أيضًا: أنه يجوز دفع كالزكاة إلى من علّق عتقه
بأداء مال، وهو يرجع إلى هذا الأصل، وأن التعليق معارضة تثبت في الذمة.
وذكر أيضًا في المبهج: إذا باع أرضًا فيها زرع قائم قد بدا صلاحه: لم يتبع قولاً واحدًا،
وإن لم يبد صلاحُه: فهل يتبع أم لا?. على وجهين، فإن قلنا: لا يتبع: أخذ البائع
بقطعه، إلا أن يستأجر الأرض من المشتري إلى حين إدراكه وأما إذا بدا صلاحه: فإنه
يبقى في الأرض من غير أجرة إلى حين حصاده.
وذكر فيه أيضًا: أنه إذا اشترى شيئًا فبان معيبًا ونما عنده نماءً متصلاً، ثم
رَدَّه: أخذ قيمة الزيادة من البائع، وقد وافقه على ذلك ابن عقيل في كسْاب الصداق
من فصوله.
وقد نقل ابن منصور عن أحمد، فيمن اشترى سلعةً فنمت عنده، وبان بها داء: فإن شاء
المشتري حبسها ورجع بقدر الداء، وإن شاء رَدّها ورجع عليه بقدر النماء. وهذا ظاهر
في الرجوع بقيمة النماء المتصل، لأن النماء المنفصل مع بقائه إما أن يستحقه
المشتري أو البائع. وأما قيمته فلا يستحقها أحد منهما مع بقائه ولا تلفه.
?يعقوب بن إبراهيم بن أحمد بن سطور
العكبري البَرْزَبيني، القاضي أبو علي،
قاضي باب الأزج: قدم بغداد بعد الثلاثين والأربعمائة. وسمع الحديث من أبي إسحاق
البرمكي.
وتفقه على القاضي أبي يعلى، حتى برع في الفقه، ودرس في حياته، وشهد عند ابن
الدامغاني، هو والشريف أبو جعفر في يوم واحد، سنة ثلاث وخمسين. وزكَّاهما شيخُهما
القاضي.
وتولى يعقوب القضاء بباب الأزج مدة، ورأيت في تاريخ القضاة لابن المنذري: أن
القاضي يعقوب عزل نفسه عن قضاء باب الأزج والشهادة، سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
وقال أبو الحسين: ولي القضاء بباب
الأزج من جهة الوالد، ثم عزل نفسه عن القضاء والشهادة سنة اثنتين وسبعين، ثم عاد
إليهما سنة ثمان وسبعين، واستمر إلى موته. قال: وكان ذا معرفة تامة بأحكام القضاء،
وإنفاذ السجلات متعففًا في القضاء، متشددًا في السنة.
وقال ابن عقيل: كان أعرف قضاة الوقت بأحكام القضاء والشروط. سمعتُ ذلك من غير
واحدٍ ولم يكن أحد من الوكلاء يهاب قاضيًا مثل هيبته له. وله المقامات المشهورة
"بالديوان" حتى يُقال: إنه كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة من
الصحابة، في قوة الرأي.
وذكره ابن السمعاني، فقال: كانتْ له يدٌ قوية في القرآن والحديث، والفقه
والمحاضرة. وقرأ عليه عامة الحنابلة ببغداد، وانتفعوا به. وكان حسن السيرة، جميل
الطريقة، جرت أموره في أحكامه على سدادٍ واستقامة.
وحدّث بشيء يسير عن أحمد عمر بن ميخائيل العكبري، وغيره.
قال: وذكر لي شيخُنا الجنيد بن يعقوب الجيلي الفقيه بباب الأزج: أنه سمع الحديث من
القاضي أبي علي يعقوب، ولم يكن له أصل حاضر بما سمع منه. وقال: عَلّقتُ عنه الفقه،
وكان لجماعة من شيوخنا الأصبهانيين منه إجازة، مثل أبي عبد اللّه الخلال، وغانم بن
خالد، وأبي نصر الغازي، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ، وغيرهم.
وقال ابن الجوزي: حدَّث وروى عنه أشياخنا.
قلتُ. قال أبو الحسين: صنف كتبًا في الأصول والفروع. وكان له غلمان كثيرون - يعني
تلامذة- قال: وكان مبارك التعليم، لم يَدْرسْ عليه أحد إلا أفلح وصار فقيهًا.
وكانت حلقته بجامع القصر.
وعليه تفقه القاضي أبو حازم، وأبو الحسين بن الزاغوني، وأبو سعد المخرّمي، وطلحة
العاقولي، وغيرهم.
وله تصانيف في المذهب. منها: "التعليقة في الفقه" في عدّة مجلدات، وهي
مُلخصة من تعليقة شيخه القاضي.
وممن روى عنه القاضي أبو طاهر بن الكرخي، وأخوه أبو الحسن.
وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشرين شوال سنة ست وثمانين وأربعمائة. كذا نقله ابن
السمعاني من خط شجاع الذهلي. وذكره أيضًا ابن المندائي- وذكر الشهر والسنة- وأبو
الحسين، وابن الجوزي في تاريخه.
وقال ابن الجوزي في الطبقات: تُوفي في شوال سنة ثمان- وقيل: سنة ست وثمانين- وكان
عمره سبعًا وسبعين سنة. ودفن من الغد بباب الأزج، بمقبرة الفيل إلى جانب أبي بكر
عبد العزيز غلام الخلال. رحمهم الله تعالى.
قال أبو الحسين: وصلَّى عليه كابر أولاده بجامع القصر، وحضر جنازته خلق كثير من
أرباب الدين والدنيا، وأصحاب المناصب: نقيب العباسيين. ونقيب العلويَّين، وحجاب
السلطان، وجماعة الشهود. وغيرهم.
و "بَرْزَبِين" بفتح الباء وسكون الراء وفتح الزاي وكسر الباء الثانية،
ثم بياء ساكنة ونون- قرية كبيرة على خمسة فراسخ من بغداد. بينها وبين أَوَانَا.
وذكر القاضي يعقوب في تعليقته، قال: إذا نذر عتق عبده ولا مال له غيره: يحتمل أن
يعود فيه، كما لو نَذَر الصدقة بماله كله فعتق ثلثه. وإن سلَّمنا فالعتاق آكد.
ولهذا يفترقان في نذر اللجاج والغضب. وهذا الاحتمال الأول مخالفٌ لما ذكره القاضي
وابن عقيل وغيرهما من أهل المذهب.
لكن منهم من يعلل بأن العتق لا يتبعَّض، في، ملك واحد، كالقاضي في خلافه.
وهذا مُوافقة على أن الواجب بالنذر عتق ثلثه لا غير. وإنما الباقي يعتق بالسراية.
ومنهم من يعلل بقوة العتق وتأكيده، كما ذكره القاضي يعقوب هنا. وعلى هذا فالواجب
عتق العبد كله بالنذر.
وذكر القاضي يعقوب أيضًا: فيما إذا حلف ليقضينَّه دراهمه التي عنده فأحاله بها،
وقال: يحتمل أن يبرأ لأن ذمته قد برئت بالحوالة. وهذا مخالف لقول القاضي والأصحاب،
فإن الحوالة نقلت الحق من ذمة إلى ذمة، ولم يحصل بها الاستيفاء.
ورأيت بخط أبي زكريا بن الصيرفي الفقيه: أن القاضي أبا علي يعقوب اختار جواز أخذ
الزكاة لبني هاشم، إذا مُنعوا حقهم من الخُمس.
وقرأت بخط الجنيد بن يعقوب الجيلي
الفقيه "فرع: تملك الأم الرجوع في الهبة" وهو اختيار القاضي يعقوب بن
إبراهيم. وفيه رواية أخرى: لا تملك. اختارها بقية الأصحاب. وذكر القاضي يعقوب
الخلاف بين أصحابنا في أن الحروف: هل هي حرف واحد قديم، أو حرفان: قديم ومحدث?
وقال: كلامُ أحمد يحتمل القولين. ولكنه اختار أنها حرف واحد. وحكاه عن شيخه القاضي
وذكر أنه سمع ابن جَلبة الحراني يحكيه عن الشريف الزبدي، وجماعة من أهل حران.
والتزم القاضي يعقوب: أن كل ما كان موافقًا لكتاب الله من الكلام في لفظه ونظمه
وحروفه، فهو من كتاب الله، وإن قصد به خطاب آدمي، حتى إنه لا يبطل الصلاة.
قال أبو العباس بن تيمية: وهذا مخالف للإجماع. وهو كما قال. فإنه إذا جَرّدَ قصده
للخطاب، فهو يتكلم بكلام الآدميين. وأما إن قصد التنبيه بالقرآن، فمن الأصحاب من
قال: لا يحنث، ومنهم من بناه على الخلاف في بطلان الصلاة بذلك.
عبد الوهاب بن طالب بن أحمد بن يوسف بن عبد الله بن عنبسة بن عبد الله بن كعب بن زيد بن بهم، أبو القاسم التميمي الأزجي البغدادي
المقرىء الفقيه: نزيل دمشق. أقام بها مدة يؤم بمسجد درب الريحان. حدّث بها بالإجازة من الطناجيري. سمع منه ابن صابر الدمشقي المحدث وأخوه.
وتوفي ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وأربعمائة. ودفن من
الغد بمقبرة الباب الصغير. رحمه اللّه تعالى.
رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن الهيثم بن عبد الله التميمي
البغدادي المقرىء، المحدث الفقيه
الواعظ، شيخ أهل العراق في زمانه، أبو محمد بن أبي الفرج بن أبي الحسن: ولد سنة
أربعمائة- وقيل: سنة إحدى وأربعمائة- وفي الطبقات لابن الجوزي: سنة أربع.
وقال السلفي: سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن سلامة الروحاني بمصر يقول: سمعت رزق
اللّه التميمي ببغداد يقول: مولدي سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
وقرأ القران بالروايات على أبي الحسن الحمامي. وسمع الحديث من أبي الحسين بن
التميم، وأبي عمر بن مهدي، وابني بشران، وأبي علي بن شاذان، وغيرهم.
وأجاز له أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي، وتفقه على أبيه أبي الفرج، وعمه أبي الفضل
عبد الواحد، وأبي عليّ بن أبي موسى صاحب الإرشاد.
قال أبو الحسين: وقرأ على الوالد السعيد قطعة من المذهب.
وأدرك من أصحاب ابن مجاهد رجلاً يقال له: أبو القاسم عبد اللّه بن محمد الخفاف،
وقرأ عليه سورة البقرة. وقرأها على ابن مجاهد، وأدرك من أصحاب أبي بكر الشبلي
رجلاً، وهو عمر بن تعويذ. وحكى عنه حكاية عن الشبلي.
قال ابن الجوزي: وشهد عند أبى الحسين بن ماكولا قاضي القضاة. فلما توفي وولى ابن
الدامغاني ترك الشهادة ة ترفعّاَ عن أن يشهد عنده. فجاء قاضي القضاة إليه مستدعيًا
لمودَّته وشهادته عنده فلم يخرج له عن موضعه، ولم يصحبه مقصوده.
قال: وكان قد اجتمع للتميمي القراَن، والفقه والحديث، والأدب والوعظ. وكان جميل
الصورة، فوقع له القبول من الخواص والعوام. وأخرجه الخليفة رسولاً إلى السلطان في
مهام الدولة. وكان له الحلقة في الفقه، والفتوى والوعظ بجامع المنصور. فلما انتقل
إلى باب المراتب كانت له حلقة بجامع القصر يروي فيها الحديث، ويفتي. وكان يمضي في
السنة أربع دفعات: في رجب، وشعبان، ويوم عرفة، وعاشوراء، إلى مقبرة أحمد، ويعقد
هناك مجلسًا للوعظ.
وقال في الطبقات: كانت له المعرفة الحسنة بالقرآن والحديث، والفقه، والأصول،
والتفسير، واللغة والعربية، والفرائض. وكان حسن الأخلاق.
وحكي عن ابن عقيل قال: كان سيد الجماعة من أصحاب أحمد بيتًا ورئاسة وحشمة أبا محمد
التميمي. وكان أحلى الناس عبارة في النظر، وأجراهم قلمًا في الفتيا، وأحسنهم
وعظًا.
وقال ابن عقيل في فنونه- والكلام أظنه في تاريخ بغداد-: ومن كبار مشايخي: أبو محمد
التميمي شيخ زمانه. كان حسنة العالم، وماشطة بغداد.
وذكر عن التميمي أنه كان يقول: كلُّ الطوائف تدَّعيني.
وقال شجاع الذهلي- فيما حكاه عن السلفي- كان له لسان وعارضة، وحلاوة منطق. وهو أحد
الوعاظ المذكورين، والشيوخ المتقدمين. وقد سمعت منه.
وقال السلفي: سألت المؤتمن
الساجي عن أبي محمد التميمي. فقال: هو الإمام علمًا ونفسًا وأبوة، وما يذكر عنه
فتحامُلٌ من أعدائه.
وقال شيرويه الديلمي الحافظ: هو شيخ الحنابلة، ومقدمهم. سمعتُ منه. وكان ثقةً
صدوقًا، فاضلاً ذا حشمة.
وقال أبو عامرِ العبدري: رزق الله التميمي كان شيخًا بهيًا، ظريفًا لطيفًا-، كثير
الحكايات والملح، ما أعلمُ منه إلاَّ خيرًا.
وقال أبو علي بن سكرة في مشيخته: ما لقيتُ في بغداد مثله- يعني التميمي- قرأتُ
عليه كثيرًا. وإنما لم أُطل ذكره لعجزي عن وصفه لكماله وفَضلِه.
وقال ابن ناصر ما رأيتُ شيخًا ابن سبع وثمانين سنة أحسن سمتًا وهديًا، واستقامة
منه، ولا أحسن كلامًا، وأظرف وعظًا، وأسرع جوابًا منه فلقد كان جمالاً للإسلام كما
لقب، وفخرًا لأهل العراق خاصة، ولجميع بلاد الإسلام عامة، وما رأينا مثله. كان
مقدمًا على الشيوخ الفقهاء وشهود الحضرة، وهو شاب ابن عشرين سنة، فكيف به وقد ناهز
التسعين سنة. وكان مكرمًا وذا قدر رفيع عند الخلفاء، منذ زمن القادر ومَنْ بعده من
الخلفاء إلى خلافة المستظهر.
وله تصانيف. منها "شرحُ الإرشاد" لشيخه ابن أبي موسى في الفقه والخصال
والأقسام.
قرأ عليه بالروايات جماعة، منهم: أبو الكرم الشهرزوري، وغيره. وأملى الحديث. وسمع
منه خلقٌ، كثير ببغداد وأصبهان، لما قدمها رسولاً من جهة المقتدي.
وممن سمع منه الحفاظ: إسماعيل التميميّ، وأبو سعد بن البغدادي، وأبو عبد اللّه
الحميدي، وابن الخاضبة، وأبو مسعود سليمان بن إبراهيم، وأبو نعيم بن الحداد، وأبو
علي البرداني، وأبو نصر الغازي، وإسماعيل بن السمرقندي، وابن ناصر، ومحمد بن طاهر،
وعبد الوهاب الأنماطي.
وسمع منه أيضًا: نصر اللّه المصيصي، وهبة اللّه بن طاوس، وعليّ بن طراد، والقاضي
أبو بكر، والقاضي أبو الحسين، وأخوه أبو حازم، وابن البطّي، وخلق كثير.
وقد روى ابن السمعاني: حديث "مَنْ عَادَى لِي وَليًّا" عن أربعة وسبعين،
سماعًا له، سمعوه من التميمي.
وروى عنه من أهل أصبهان أزيد من مائة راوٍ. وآخر من روى عنه: السلفي بالإجازة.
وذكر ابن النجار في أول تاريخه بإسناده عن خميس الجوزي الحافظ: سمعتُ طلحة بن علي
الرازي، قال: رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ببغداد، كأنه في مسجد
عتاب، جالس في القبلة، وعليه برد كَحِل، وهو متقلد بسيف، والمسجد غاص بأهله. وفي
الجماعة أبو محمد التميمي وهو يقول له: يا رسول الله، ادعُ اللّه لنا فرفع يديه،
فقال - وأنا أقول معه-: اللهم إنَّا نسألُك حسن الاختيار في جميع الأقدار، ونعوذُ
بك من سوء الاختيار في جميع الأقدار.
قال أحمد بن طارق الكركي: سمعتُ أبا الكرم الشهرزوري يقول: سمعتُ التميمي يقول:
لما دخلتُ سمرقند برسالة المقتدي إلى "ملكشاه" رأيتهم يروون الناسخ
والمنسوخ لهبة اللّه عن خمسة رجال إليه، فقلت لهم: الكتابُ معي، والمصنِّفُ جدي
لأمي، ومنه سمعتُه، ولكنْ ما أُسمع كل واحد منكم إلا بمائة دينار. فما كان الظهر
حتى جاءني كيس فيه خمسمائة دينار والجماعة فسمعوا عليَّ، وسلموا إليَّ الذهب. قال:
ولما عدنا من سمرقند ودخلنا أصبهان، وأمليتُ الحديث يوم جمعة، فقام الجماعة
ومدحوني، وقالوا: ما سمعنا أحسن من هذا.
ولأبي محمد التميمي شعرٌ حسن. قال ابن السمعاني: أنشدنا هبةُ اللّه بن طاوس بدمشق،
أنشدنا التميمي لنفسه:
وما شنآَنُ الشيب من أجل لـونـه |
|
ولكنه حادٍ إلى الـبـين مـسـرعُ |
إذا ما بدتْ منه الطـلـيعةُ اَذنـتْ |
|
بأنَ المنايا خلفـهـا تـتـطـلـعُ |
فإن قصَّها المقراضُ صاحت بأختها |
|
فتظهر تتلـوهـا ثـلاثٌ وأربـعُ |
وإن خضبتْ حالَ الخضـابُ لأنَـهُ |
|
يغالبُ صُنع اللّه، واللـه أصـنـعُ |
فيُضحِي كريش الديك فيه تلـمُّـعٌ |
|
وأقطع ما يُكساه ثوبٌ مـلـمَّـعُ |
إذا ما بلغت الأربعين فقل لـمـن |
|
يودك فيما تشتـهـيه وتـسـرعُ |
هَلموا لنبكي قبل فـرقة بـينـنـا |
|
فما بعدها عيش لذيذ ومـجـمـعُ |
وخَلِّ التصابي، والخلاعة، والهوى |
|
وأمَّ طريق الحق، فالحق أنـفـعُ |
وخُذ جُنَّة تُنجي وزادًا من التـقـى |
|
وصحبة مأمون، فقصدك مفـزع |
قال: وأنشدنا إسماعيل بن السمرقندي، أنشدنا التميمي لنفسه:
مررْنا على رسم الديار فسلّمنـا |
|
وقلنا له: يا ربعُ أين نأَوْا عَنَّـا? |
وجُدنا بدمع كالرذاذ على الثّرى |
|
فَصُمَّ المنادَى، فانصرفنا كما كنّا |
وما ذاك إلاَّ أنَ رسـم ديارهـم |
|
به كالذي نلقى فقد زادنا حزنـا |
فلما أيسنا من جواب رُسُومِهـم |
|
نزلنا فقبلنا الثرى قبل أن رُحنا |
ومن شعره:
يا ويح هذا القلب ما حَالُه |
|
مشتغلاً في الحي بلبالُه |
سكران لو يصحو لعاتبه |
|
وكيف بالعتب لمن حالُه |
دمع غزير، وجوى كامنٌ |
|
يرحمه من ذاك عُذَّالُـه |
ما ينثني باللوم عن حُبِّـه |
|
تغيّرتْ في الحب أحوالُه |
قال: وأنشدنا لنفسه:
ولم أستَطع يومَ الـفـراقِ وداعَـه |
|
بلفظي فنابَ الدَمعُ مِنِّي عن القول |
وَشيعَهُ صبري ونومي كلاهـمـا |
|
فعَدتُ بلا أنسٍ نهاري ولا لـيلـي |
فلما مضى أقبلتُ أسعى مُوَلَـهـا |
|
يدَيّ على رأسي وناديتُ: يا ويلـي |
تبَدَّلتُ يوم البين بـالأنـس وحـشة |
|
وجرَّرتُ بالخسران يوم النوى ذَيْلي |
وله أيضًا:
لا تسألاني عن الحيّ الـذي بـانـا |
|
فإنني كنتُ يوم البين سـكـرانـا |
يَا صاحِبيّ على وجدي بنُعـمـانـا |
|
هل راجعٌ وصلُ ليلى كالذي كانا? |
أم ذاك آخر عهدٍ لـلّـقـاء بـهـا |
|
فنجعل الدهر ما عشناه أحـزانـا |
مَا ضَرَّهم لو أقامُوا يَوم بـينـهـم |
|
بقَدر ما يلبسِ المحزون أكفـانـا |
ليت الجِمال التي للبين ما خُلـقـت |
|
وَلَيتَ حـادٍ لـلـبـين حـيرانـا |
تُوفي أبو محمد التميمي
رحمه الله تعالى ليلة الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
وصلى عليه ابنه أبو الفضل من الغد. ودُفن بداره بباب المراتب بِإذن الخليفة
المستظهر. ولم يُدفن بها أحد قبله.
ثم لما توفي ابنه أبو الفضل سنة إحدى وتسعين، نقل معه إلى مقبرة باب حرب، فدُفِن
إلى جانب أبيه وجده وعمه، بدكة الإمام أحمد عن يمينه.
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد الصالحي، أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق
الهمداني، أنبأنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن سابور، أنبأنا عبد العزيز بن محمد
بن منصور الشيرازي وأنبأتنا زينب بنت أحمد عن عبد الرحمن بن مكي عن جده أبي الطاهر
بن أحمد بن محمد الأصبهاني، قالا: أنبأنا أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب بن عبد
العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة
بن الهيثم بن عبد الله التميمي- قال الأول: سماعًا، وقال الثاني: إجازة- قال:
سمعتُ أبي أبا الفرج عبد الوهاب يقول: سمعت أبي أبا الحسن عبد العزيز يقول: سمعتُ
أبي أبا بكر الحارث يقول: سمعتُ أبي أسدًا يقول: سمعتُ أبي الليثَ يقولُ: سمعتُ
أبي سليمانَ يقولُ: سمعت أبي الأسودَ يقول: سمعتُ أبي سفيانَ يقول: سمعت أبي يزيد
يقولُ: سمعت أبي أكيْنَةَ يقول: سمعت أبي الهيثَم يقول: سمعتُ أبي عبدَ الله يقول:
سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما اجتمعَ قَوْمٌ عَلَى ذِكْرِ
الله إلا حفّتْهمُ المَلاَئِكَةُ وغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ".
"أُكيْنَةُ" بضم الهمزة وفتح الكاف وبالياء والنون المفتوحة قيَّده ابنُ
ماكولا وغيرُه.
وعبد الله هذا هو ابن الحارث بن سيدان بن مُرَّة بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن
مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم التميمي. كذا نسبه ابن ماكولا.
وقال ابن الجوزي: كان عبدُ اللّه هذا اسمه عبد اللات، فسماه رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم: عبد الله، وعلمه. وأرسله إلى اليمامة والبحرين ليعلمهم أمر دينهم،
وقال: "نْزع اللّه من صدرك وصدر ولدك الغل والغش إلى يوم القيامة".
قرأتُ بخط الإمام أبي العباس بن تيمية: أن أبا محمد التميمي وافق جده أبا الحسن
على كراهة الماء المسخن بالشمس.
ونقل بعضُ الأصحاب عن أبي محمد التميمي: أنه اختار أن خروج المني بغير شهوة يوجب
الغسل.
وذكر ابن الصيرفي في نوادره قال: نقل
أبو داود عن أحمد: المرأة تعدم الماء، ويكون عنده مجتمع الفساق، فتخاف أن تخرج: أتتيمم?
قال: لا أدري.
قال أبو محمد التميمي في شرح الإرشاد: يتوجه أن تتيمم لأنه ضرورة. وهل تعيد الوضوء
إذا قدرت على الماء. على وجهين. أصحهما: لا إعادة عليها.
قال: وكان عبدُ العزيز يقول: تُعيد الوضوء والصلاة إذا قَدرتْ، فإن لم تُعد فلا
جناح.
وقال غيره من أصحابنا: لا إعادة. قال: وهو الصحيح. وبه يقول شيخنا- يعني: ابن أبي
موسى.
قلتُ: فحقْيقة الوجهين في الإعادة إنما هي في الاستحباب وعَدمِه فإن أبا بكر قد
قال: فإن لم تُعد فلا حرج.
وقد ذكر الأصحاب: إن أحمد نصَّ في رواية أخرى على أنها لا تمضي وتتيمم بل قالوا:
لا يجوز لها المضي إذا خافتْ على نفسها منهم.
وفي النوادر أيضًا: إن أبا محمد التميمي حكى رواية عن أحمد: بصحة الصلاة عن يسار
الإمام مع الكراهة.
وفي المنثور لابن عقيل: ذكر شيخنا في الجامع الكبير: إذا فصد، وشد العصابة: مسح
عليها وتيمم. فاعترض عليه أبو محمد التميمي بأنه لا يخلو: إما أن يكون جرحًا
فيتيمم له، أو مثل الجبيرة فيمسحه فقط. فقال القاضي: وجدتُه عن أحمد كذلك- يعني:
جواب التميمي.
وذكر ابن الجوزي في تاريخه: أن جلال الدولة أمره أن يكتب شاهنشاه الأعظم ملك
الملوك، وخطب له بذلك. فنفر العامة، ورجموا الخطباء، ووقعت فتنة. وذلك سنة تسع
وعشرين وأربعمائة. فاستفتى الفقهاء فكَتبَ الصَّيْمري: أن هذه الأسماء يُعتبر فيها
القصد والنية. وكتب أبو الطيب الطبري: أن إطلاق ملك الملوك جائز، ويكون معناه ملك
ملوك الأرض. وإذا جاز أن يُقال: قاضي القضاة، وكافي الكفاة، جاز أن يُقال: ملك
الملوك. وكتب التميمي نحو ذلك وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني: أن القاضي
الماوردي مَنع من جواز ذلك.
قال ابن الجوزي: والذي ذكره الأكثرون هو القياس إذا قصد به ملوك الدنيا، إلا أني
لا أرى إلا ما رآه الماوردي لأنه قد صحَّ في الحديث ما يدل على المنع لكنهم عن
النقل بمعزل. ثم ساق حديثَ أبي هريرة الذي في الصحيحين. وابن الجوزي وافق على جواز
التسمية بقاضي القضاة ونحوه. وقد ذكر شيخنا أبو عبد اللّه بن القيم قال: وقال بعض
العلماء: وفي معنى ذلك- يعني: ملك الملوك- كراهية التسمية بقاضي القضاة، وحاكم
الحكام فإنَّ حاكم الحكام في الحقيقة هو الله تعالى. وقد كان جماعةٌ من أهل الدين
والفضل يتورعون عن إطلاق لفظ قاضي القضاة، وحاكم الحكام، قياسًا على ما يبغضه
اللّهُ ورسولُه من التسمية بملك الأملاك. وهذا محض القياس.
قلتُ. وكان شيخنا أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن جماعة الكناني الشافعي-
قاضي الديار المصرية، وابن قاضيها- يمنع الناس أن يخاطبوه بقاضي القضاة، أو يكتبوا
له ذلك، وأمرهم أن يبدلوا ذلك بقاضي المسلمين. وقال: إنَّ هذا اللفظَ مأثورٌ عن
علي رضي الله عنه.
يوضح ذلك: أن التلقيب بملك الملوك إنما كان من شعائر ملوك الفرس من الأعاجم المجوس
ونحوهم. وكذلك كان المجوس يسمون قاضيهم "موبَذ مُوبَذان" يَعنُون بذلك:
قاضي القضاة. فالكلمتان من شعائرهم، ولا ينبغي التسمية بهما. واللّه أعلم.
عبد الوهاب بن رزق اللّه بن عبد الوهاب التميمي، أبو الفضل بن أبي محمد
المذكور قبله: ذكره ابن السمعاني، فقال: كان فاضلاً، متقنًا، واعظًا، جميل المحيا.
سمع أبا طالب بن غيلان. وحدثنا عنه عبد الوهاب الأنماطي. ثم ساق له حديثًا، ثم
قال: سمعتُ أبا الفضل بن ناصر يقول: مات أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي
يوم الإثنين لليلتين بقيتا من جُمادى الآخرة، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة. ودُفن من
الغد لمقبرة باب حرب.
وقد قدمنا أن أباه نُقل معه إلى باب حرب في هذا اليوم.
وذكر أبو الحسين في الطبقات: أنه كان يحضر بين يدي أبيه في مجالس وعظه بمقبرة
الإمام أحمد، وينهضُ بعد كلامه قائمًا على قدميه، ويورد فصولاُ مسجوعة.
عبد الواحد بن رزق اللّه بن عبد الوهاب التميمي، أبو القاسم، أخو المذكور قبله: ذكره ابن السمعاني أيضًا، فقال: من أولاد الأئمة والمحدثين، قرأ القرآن والحديث والفقه. وكان من محاسن البغداديين في الوعظ. ختم به بيته، ولم يعقب.
سمع أبا طالب بن غيلان، وحدث بشيء يسير.
قلت: وسمع هو وأخوه عبد الوهاب من
القاضي أبي يعلى. ثمَّ قال: سألتُ عبد الوهاب الأنماطي عنه. فقال: كان صَدعًا.
وكان يلبس الحرير.
وذكر ابن النجار: أنه كان يُراسل به إلى الملوك في أيام المستظهر، وأنه كان شديد
القوة في بدنه، وأنه حدَّث بأصبهان.
وسمع منه محمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ.
وتُوفي يوم الأحد سابع عشر جُمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. ودُفِن من
الغد بمقبرة باب حرب عند أخيه أبي الفضل. رحمهم الله تعالى.
علي بن عمرو بن علي بن الحسن بن عمرو الحراني، أبو الحسن بن الضرير
الفقيه، الزاهد: صحب الشريف أبا القاسم الزيدي الحرّاني وأخذ عنه، وسمع منه. وتفقه ببغداد على القاضي. وكان من أكابر شيوخ حَرَّان.
ذكره أبو الفتح بن عبدوس، وغيره وحدَّث بالإبانة الصغرى لابن بطّة، سنة أربع
وثمانين وأربعمائة بحران، بسماعه من الشريف الزيدي، بسماعه من ابن بطّة.
قرأتُ بخط بعض أصحابه أنه أنشدهم لغيره:
ولا تمشِ فوق الأرض إلاَّ تواضعًا |
|
فكم تحتها قومٌ هُمُ منـك أرفـعُ |
فإنْ كنتَ في عزٍّ، وحرزٍ، وَمَنعةٍ |
|
فكم مات مِن قومٍ هُمُ منك أمنـعُ |
وذكره أبو الحسين، فقال: الصالح التقي، صاحب الوالد السعيد.
توفي بسروج، في شعبان سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
وحكى لي ابنه خليفة، قال: حكى لي رجل من أهل سُروج من الصالحين: أنه رأى في تلك
الليلة قائلاً يقول له: يا فلان، إلى متى تنام. قم، قد انهدم ربع الإسلام. قال:
فانتبهتُ، وانزعجتُ، ثم عدت نمتُ، فرأيت القائلَ يقولُ: كم تنامُ، قد انهدم ربع
الإسلام. قال: فقعدتُ واستغفرتُ الله تعالى.
وقلتُ: إيش هذا? قال: ثمَّ نمتُ، فقال لي يا فلانُ، قد انهدم ربع الإسلام. قد مَات علي بن عَمرو.
قال: فأصبحتُ وقد مات رحمه الله تعالى.
علي بن المبارك الكرخي النهري
الفقيه أبو الحسن: وقال ابن نقطة: هو عليُ بن محمد الفقيه، من أقران ابن عقيل.
قال أبو الحسين: تفقه على الوالد، ودرس في حياته وبعد مماته. كان كثير الذكاء،
قيمًا بالفرائض.
سمع من الوالد الحديث الكثير.
وتوفي في ذي القعدة سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وصليتُ عليه إمامًا. ودُفن بمقبرة
جامع المنصور.
قال: وسمعت أبا الحسن النهري قال: كنتُ في بعض الأيام أمشي مع القاضي الإمام
والدك، فالتفت، فقال لي: لا تلتفتْ إذا مشيتَ فإنه يُنسب فاعل ذلك إلى الحمق.
قال: وقال لي يومًا آخر- وأنا أمشي معه-: إذا مشيتَ مع من تعظمه، أين تمشي منه.
قلت: لا أدري، قال: عن يمينه، تقيمه مقام الإمام في الصلاة، وتخلى له الجانب
الأيسر، فإذا أراد أن يستنثر أو يزيل أذى جعله في الجانب الأيسر.
?عبد الله بن جابر بن ياسين بن الحسن بن محمد بن أحمد بن مَحْمُويَهْ بن خالد العسكريّ
الحنائي، العطار، الفقيه، المحدث، أبو
محمد بن أبي الحسن: ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة. وسمع الحديث من أبي علي بن شاذان،
وأبي القاسم بن بشران، وغيرهما وتفقه على القاضي أبي يعلى، واستملى عليه الحديث.
قال ابن السمعاني: تفقه على القاضي أبي يعلى. وكان خال أولاده. وكان صدوقًا، مليح
المحاضرة، حسن الخط، بهيّ المنظر. وكان يستملي للقاضي أبي يعلى بجامع المنصور.
وقال القاضي أبو الحسين: علق عن الوالد قطعة من المذهب والخلاف. وكتب أشياء من
تصانيفه. وكان صادق اللهجة، حسن الوجه، مليح المحاضرة، كثير القراءة للقرآن، مليح
الخط، حسن الحساب.
وذكر القاضي عياض: أنه سأل أبا علي بن سكرة عنه? فقال: كان شيخًا مستورًا، فاضلاً.
روى عنه القاضي أبو الحسين، وأبو القاسم بن السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي، وعمر
بن ظفر، وجماعة.
قال القاضي أبو الحسين: مات خالي يوم الأربعاء عشرين شوال سنة ثلاث وتسعين
وأربعمائة، وصليتُ عليه إمامًا. ودُفن بمقبرة باب حرب. قريباً من قبر الإمام أحمد.
قال شجاع الذهلي: مات يوم الخميس حادي عشرين شوال.
قال ابن السمعاني: والأول هو الصواب وإنما دُفن يوم الخميس. وكان أبوه أبو الحسن
جابر بن ياسين ثقة، من أهل السنة.
سمع من أبي حفص الكناني، والمخلص، وجماعة. وحدِّث.
روى عنه القاضي أبو بكر الأنصاري.
وتوفي سنة أربع وستين وأربعمائة في شوال.
و"مَحْمُويَهْ" في نسبه:- بميم مفتوحة، ثم حاء مهملة، ثم ميم مضمومة. هدا هو الصحيح. وذكره ابن السمرقندي: "حمويه" بلا ميم في أوله. والحنائي أظنه منسوبٌ إلى بيع الحناء.
زياد بن علي بن هارون أبو القاسم
الحنبلي الفقيه: نزيل بغداد. سمع بها
من أبي مسلم عمر بن علي اللّيثي البُخاري. وحدّث عنه بكتاب الوَجيز لابن خزيمة.
سمعه منه أبو الحسن بن الزاغوني، وأبو الحسين بن الأبنوسي، ورواه عنه.
وذكر هبة اللّه السقطي: أن زيادًا الفقيه الحنبلي توفي في طاعون، سنة ثلاث وتسعين
وأربعمائة. رحمه اللّه تعالى.
إسماعيل بن أحمد بن محمد بن خيران البزَّار الهمذاني، أبو محمد الحافظ:
مكثر. سمع بنيسابور عبد الغافر
الفارسي، وأبا عثمان الصابوني، وأخاه أبا يعلى، وأبا حفص بن مسرور. وبأصبهان أبا
عمر بن منده، وغيره. سمع ببلدان شتى. وحدّث ببغداد.
سمع منه أبو عامر العبدري. وروى عنه ابن السقطي في معجمه. وقال شيرويه الديلمي
عنه. وهو الذي وصفه بالحنبلي.
سمع عليه مشايخ الوقت بخراسان والجبل، وكان حافظًا مكثرًا، قديم الحديث.
وذكر ابن النجار: أنه تُوفي ببغداد يوم الأربعاء رابع عشرين المحرم سنة تسع
وثمانين وأربعمائة، بالمارستان. ودُفن بباب حرب. رحمه اللّه تعالى.
محمد بن علي بن الحسين بن جدا العكبري، أبو بكر بن أبي الحسين المتقدم:
ذكره ابن الجوزي في التاريخ، وقال: كان
من العُلماء. نزل يتوضأ في دجلة فغرق، في ربيع الأول سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة.
وقال شُجاع الذهلي: يوم الخميس خامس ربيع الأول.
قال ابن النجار: سمع مع والده من أبي الحسين بن المهتدي حضورًا سنة ست وستين
وأربعمائة. ومات شابًا. وما أظنه روى شيئًا.
عبد الباقي بن حمزة بن الحسين الحداد، الفرضي، أبو الفضل:
وُلد سنة خمس وعشرين وأربعمائة.
وذكره ابن السمعاني، فقال: شيخٌ صالح، خيّر. كان قد قرأ الفقه. وكانت له يد في
الفرائض والحساب.
سمع أبا محمد الجوهري وغيره.
وروى لنا عنه أبو الغنائم سرايا بن هبة اللّه الحراني، وأبو الفضل بن ناصر الحافظ.
سألته عنه? فأحسن الثناء عليه ووثقه، وقال: ثقة خَيّر.
وذكر ابن النجار: أنه سمع أيضًا من أبوي الحسين بن المهتدي، وابن حسنون، وأبي عليّ
المبارك، وهناد النسفي، وغيرهم. وأنه حدّث باليسير.
وروى عنه سعيد بن الرزاز الفقيه، وأبو محمد المقرىء المعروف بسبط الخياط، وأبو بكر
محمد بن خذاذاد الحداد.
توفي يوم السبت رابع عشر شعبان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة. ودفن في مقبرة باب
أبرز.
قلتُ: له كتاب "الإيضاح في الفرائض". رأيتُ منه المجلد الأول. وهو حسن
جدًا. صنفه على مذهب الإمام أحمد. وحرّر فيه نقل المذهب تحريرًا جيدًا.
ومما ذَكَر فيه، في باب توريث ذوي الأرحام، في عمة لأبوين وعمة لأب وعمة لأم:
المال بينهن على خمسة: للعمة من الأبوين ثلاثة أسهم، وللعمة من الأب سهم، وللعمة
من الأم سهم. هذا إذا نزلناهن أبًا، فأما إذا نزلناهن عمًّا، ففي ذلك خلاف بين
أصحابنا. فمنهم من قال: الأشبهُ بمذهبنا: أن يكون المال للعمة مع الأيوين، بمنزلة
الأعمام المفرقين. منهم من قال: الأشبه أن يجعل المال بينهن على خمسة، كأن العمَّ مات
وترك ثلاث أخوات مفترقات، كما قلنا في الأب.
قال: وهذا هو المنصوص عن أحمد. وجدتُه في كتاب الشافي لأبي بكر عبد العزيز، من
رواية حرب بن إسماعيل.
سمعتُ أحمد قيل له في ثلاث عمَّات مفترقات. قال: على النصف والسدس.
قيل له: أليس المال للعمة من الأب والأم? قال: لا. وهذا نص.
قلتُ: لم يبين أحمد الأصلَ الذي تفرع عنه هذا الجواب، وهل هو تنزيل العمات أبًا أو
عمًّا? وعنه في ذلك روايات معروفة. لكنه لما أنكر أن يكون المال تختص به العمة
للأبوين، ولم يفصل بين أن يقال: بتنزيلهن أبًا أو عمًّا، ظهر منه: أنه لا فرق في
ذلك بين تنزيلهن أبًا أو عمًّا. وهذا هو الصواب الذي عليه جمهور الأصحاب. والأول
الذي ذكره ابن الحداد عن بعض الأصحاب، قد قاله الشيرازي في المبهج غيره، وجعلوا
العمات بمنزلة الأعمام المفرقين.
وهذا مع مخالفته لنص أحمد، فهو ضعيف في
القياس أيضًا فإنّا لا ننزل العمات أعمامًا متفرقين بمنزلة إخوتهن حتى ننزل العمة
لأم عمًّا لأم. فإنه يلزم من ذلك سقوطها البتة لأنه غير وارثٍ وإنما ننزلهن كلهن
أعمامًا لأبوين بمنزلة أخيهن العم من الأبوين.
ولا يقال: فيلزم من ذلك أن يقتسموا المال بينهن بالسَّوِيَّة كالأعمام المتفقين
لأنا نجعل المدلى به وهو العم كمَيِّتٍ ورثه أخواته، وهن العمات الثلاث، فيقتسمون
المال على خمسة، كما قلنا مثل ذلك في تنزيلهن أبًا. ولا فرق بينهما. فإن القاعدة:
أنه إذا أدلى جماعة بوارثٍ واحدٍ ولم يتفاضلوا بالسبق إليه فنصيبه بينهم على حسب
ميراثهم منه لو ورثوه، سواء اختلفت منازلهم منه كالإخوة والأخوات المفترقين، أو
تساوت كأولاده وإخوته المتفقين.
محمد بن الحسن بن جعفر الراذاني، المقرىء الفقيه الزاهد، نزيل أوانا أبو عبد اللّه:
ولد سنة ست وعشرين وأربعمائة.
قاد القاضي أبو الحسين: صحب الوالد. وكان زاهدًا، ورعًا، عالمًا بالقراءات وغيرها.
وعدّه أيضًا ممن تفقه على أبيه، وعلق عنه.
وذكر ابن النجار: أنه سمع من القاضي أبي يعلى، ومن أبي الغنائم بن المأمون، وأبي
بكر بن حمدويه، وخلق. وأنه حدّث باليسير.
وروى عنه الحافظ أبو نصر اليُنارتي في معجمه، وقال: أخبرنا الشيخ الإمام الزاهد
أبو عبد الله الراذاني.
وقال ابن السمعاني: كان فقيهًا، مقرئاً، من الزهاد المنقطعين، والعباد الورعين،
مجاب الدعوة، صاحب كرامات. سمع من القاضي أبي يعلى وغيره. سمعتُ الحسن بن حريفا
الشيخ صالح باللجمة يقول: دخلتُ على أبي عبد الله الراذاني، واعتذرتُ عن تأخري
عنه، فقال: لا تعذرْ فإن الاجتماع مقدّر.
وسمعت ظافر بن معاوية المقرىء بالخريبة يقول: سمعتُ أن أبا عبد الله الراذاني أراد
أن يخرج إلى الصلاة، فجاء ابنه إليه، وكان صغيرًا، وقال: يا أبي أريد غزالاً ألعبُ
به. فسكت الشيخ، فلحَّ الصبي، وقال: لا بدَّ لي من غزال، فقال له الشيخ: اسكت يا
بني، غدًا يجيئك غزال. فمن الغد كان الشيخ قاعدًا في بيته، فجاء غزال ووقف على باب
الشيخ، وكان يضرب بقرنيه الباب إلى أن فتحوا له الباب ودخل، فقال الشيخ لابنه: يا
بني، جاءك الغزال.
وذكر ابن النجار بإسناده: أن رجلاً حلف بالطلاق أنه رآه بعرفة، ولم يكن الشيخ حج
تلك السنة، فأخبر الشيخ بذلك فأطرق، ثم رفع رأسه، وقال: أجمعت الأمة قاطبة على أن
إبليس عدو اللّه يسير من المشرق إلى المغرب، في إفتان مسلم أو مسلمة، في لحظة
واحدة، فلا ينكر لعبد من عبيد الله أن يمضي في طاعة الله بإذن الله في ليلة إلى
مكة ويعود. ثم التفت إلى الحالف، وقال: طبْ نفسًا فإن زوجتك معك حلال.
قال ابن الجوزي: كان الراذاني كثير التهجد، ملازمًا للصيام.
تُوفي رحمه الله يوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى، سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
ودفن بأَوَانا.
أبو الحسن بن زفر العكبري:
ذكره القاضي أبو الحسين فيمن تفقه على أبيه، وعلق عنه، وسمع منه.
وقال في ترجمته: صحب الوالد، وسمع درسه. وكان صالحًا، كثير التلاوة والتلقين
للقرآن.
وبلغني أنه سرد الصوم خمسًا وسبعين سنة.
ومات قبل أبي عبد الله بن الراذاني بأيام يسيرة وله تسعون سنة رحمه الله تعالى.
محمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن البرداني
الفقيه الزاهد، أبو سعد: أحد الفقهاء من أصحاب القاضي أبي يعلى. سمع منه.
قال ابن النجار: وما أظنه روى شيئًا.
قال ابن الخشاب: أنشدني أبو بكر هبة الله بن أحمد الحفار، أنشدني أبو سعد البرداني
عند موته:
إنَ من يأمُر بـالـص |
|
بر من الصبر نـفـرْ |
إنَّ في الصَّدْر من الصَّ |
|
بْر كأَيْنـاتٍ تـصـرّ |
قال: أنشدنيهما، ثم فاضتْ
نفسُه رحمه الله.
توفي يوم الأحد ثامن عشر المحرم سنة ست وتسعين وأربعمائة. ودُفن في مقبرة باب حرب.
ذكر ابن عقيل في فنونه قال: وجدتُ رواية عن أحمد بخط أبي سعد البرداني: أن عبدة
الأوثان يقرون بالجزية.
قال: وذكر ابن السمعاني: أنه مذهب أبي حنيفة. وهذا النقل عام في العرب وغيرهم. وليست هذه الرواية المشهورة: أن الجزية تؤخذ من كل الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب فإن هذه الرواية مشهورة عن أحمد، وهي معروفة في كتب القاضي وغيرها، فلا يحتاج مَنْ دون ابن عقيل- فضلاً عن ابن عقيل- في نقلها إلى أن يجدها في تعليق أبي سعد البرداني.
محمد بن عبيد الله بن محمد بن أحمد بن كادش العكبريّ، المحدث، المستملي، أبو ياسر:
مفيد أهل بغداد. وُلد سنة سبع وعشرين
وأربعمائة: وسمع، وكتب الكثير وأفاد الناس. وسمع الطلبة والغرباء بقراءته وإفادته
الكثير.
سمع قديمًا من الجوهري، والقاضي الماوردي، والقاضي أبي يعلى، وأبي الحسن بن حسنون.
وقرأ بنفسه الكثير على طراد، وابن البطي، وطبقتهما. وحدَّث باليسير.
روى عنة السمرقندي، والسلفي وقال عنه: كان قارىء بغداد، والمستملي بها على الشيوخ،
ثقة، كثير السماع، ولم يكن له أنس بالعربية. وكان حنبلي المذهب، جهوري الصوت عند
قراءة الحديث والاستملاء.
توفي في يوم الاثنين رابع صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة. ودفن بمقبرة باب حرب.
أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسن البرداني، المستملي، أبو علي الحافظ
وقد سبق ذكر والده أبي الحسن: ولد سنة
ست وعشرين وأربعمائة. وسمع من العُشَارى سنة ثلاثٍ وثلاثين. وهو أول سماعه. من أبي
القاسم الأزجي، أبي الحسن القزويني، وابن غيلان، والبرمكي، والخطيب، وغيرهم. وكتب
الكثير وخرّج، وانتقى، واستملى. وتفقه على القاضي أبي يعلى.
قال أبو الحسين في الطبقات: سمع درس الوالد سنين، وسمع منه الحديث الكثير. وكان
أحد المستملين عليه بجامع المنصور.
قال ابن السمعاني: كان أحد المتميزين في صنعة الحديث.
وقال ابن الجوزي: كان ثقة، ثبتًا، صالحًا، له معرفة تامة بالحديث.
وقال غيره: كان بصيرًا بالحديث، محققًا حجة. سمع منه جماعة، وحدَّث عنه علي بن
طرَّاد، وإسماعيل التميمي، والسلفي، وسأله عن أحوال جماعة? فأجاب وأجاد.
قال السلفي: كان أبو عليّ أحفظ وأعرف من شجاع الذهلي. وكان ثقة، نبيلاً، له
تصانيف.
قال الذهبي: جمع مجلدًا في المنامات النبوية.
قلتُ: وله جزء في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر الصديق.
ونقل السلفي عن خميس الجوزي الحافظ قال: كان أبو علي بن البرداني أحد الحفاظ
الأئمة الذين يعلمون ما يقولون.
توفي ليلة الخميس حادي عشرين شوال، سنة ثمان وتسعين وأربعمائة. ودفن من الغد
بمقبرة باب حرب.
وفي الطبقات لأبي الحسين: أنه توفي عشية الأربعاء عاشر شوال.
محمد بن أحمد بن علي بن عبد الرزاق، الشيرازي الأصل، البغدادي، الصَّفَار، المقرىء، الزاهد، المعروف بأبي منصور الخياط.
وُلد سنة إحدى وأربعمائة، في شوال- أو
ذي القعدة- وقرأ القرآن على أبي نصر أحمد بن عبد الوهاب بن مسرور، وغيره. وسمع
الحديث في كبره من أبي القاسم بن بشران، وأبي منصور بن السواق، وأبي طاهر عبد
الغفار بن محمد المؤدب، والحُسين بن محمد الخلال، وأبي الحسن القزويني وغيرهم.
وتفقه على القاضي أبي يعلى. وصنف كتاب "المهذب في القراءات" وروى الحديث
الكثير.
وروى عنه سبطه أبو محمد عبد اللّه بن علي المقرىء وأخوه أبو عبد الله الحسين، وعبد
الوهاب بن الأنماطي، وابن ناصر، والسلفي، وسعد الله بن الدجاجي، وأبو الفضل خطيب
الموصل وغيرهم.
وكان إمامًا بمسجد بن جرده ببغداد، بحريم دار الخلافة. اعتكف فيه مدة طويلة، يعلم العميان
القراَن، لوجه الله تعالى، ويسأل لهم، وينفق عليهم. فختم عليه القراَن خلق كثير،
حتى بلغ عدد من أقرأهم القرآن من العميان سبعين ألفاً.
قال ابن النجار: هكذا رأيتُه بخطأبي نصر اليونارتي الحافظ. وقد زعم بعض الناس أن
هذا مستحيل، وأنه من سبق القلم. وإنما أراد: سبعين نفسًا. وهذا كلام ساقط فإن أبا
منصور قد تواتر عنه إقراء الخلق الكثير في السنين الطويلة.
قال ابن الجوزي: أقرأ السنين الطويلة. وختم عليه القرآن ألوف من الناس.
وقال القاضي أبو الحسين: أقرأ بضعًا
وستين سنة، ولقن أممًا. وهذا موافق لما قاله أبو نصر. وهذا أمر مشهور عن أبي
منصور، فيكون جميع من ختم عليه القرآن سبعين نفسًا. وهذا باطل قطعًا. ونحن نرى
آحاد المقرئين يختم عليه أكثر من سبعين نفسّا. وإنما كان الشيخ أبو منصور يُقرىء
هو بنفسه وبأصحابه هذه المدد الطويلة، فاجتمع فيها إقراء هذا العدد الكثير.
قال ابن الجوزي: كان أبو منصور من كبار الصالحين الزاهدين المتعبدين. كان له ورد
بين العشاءين، يقرأ فيه سبعًا من القرآن قائمًا وقاعدًا، حتى طعن في السن.
وقال ابن ناصر عنه: كان شيخًا صالحًا، زاهدًا، صائمًا أكثر وقته، ذا كراماتِ ظهرتْ
له بعد موته.
قال أبو الحسين: كان الوالد السعيد إذا جلس للحكم بنهر المعلى يقصد الجلوس للحكم
بمسجده ويصلي خلفه.
قال عبد الوهاب الأنماطي: تُوفي الشيخ الزاهد أبو منصور، في يوم الأربعاء، وقت
الظهر، السادس عشر من المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة. وصلى عليه يوم الخميس في
جامع القصر ابن ابنته أبو محمد عبد الله. كان الجمع كثيراً جدًا. وعُبر به إلى
جامع المنصور، فَصُلي عليه أيضًا، وحضرتُ ذلك. وكان الجمع وافراً عظيمًا. وكانت
الصلاة عليه في داخل المقصورة عند القبلة. ومضيتُ معه إلى باب حرب. ودفن- في الدكة
بجنب الشيخ أبي الوفاء بن قواس.
وقال ابن الجوزي: مات وسنه سبع وتسعون سنة، ممتعًا بسمعه وبصره وعقله. وحضر جنازته
ما لا يحد من الناس، حتى إن الأشياخ ببغداد كانوا يقولون: ما رأينا جمعًا قط هكذا،
لا جمع ابن القزويني، ولا جمع ابن الفراء، ولا جمع الشريف أبي جعفر. وهذه الجموع
التي تناهت إليها الكثرة وشغل الناس ذلك اليوم وفيما بعده عن المعاش، فلم يقدر أحد
من نقاد الباعة في ذلك الأسبوع على تحصيل نقده.
وقال أبو منصور بن خيرون: ما رأيتُ مثل يوم صُلي على أبي منصور الخياط، من كثرة
الخلق والتبرك بالجنازة.
وقال السلفي: ذكر لي المؤتمن في ثاني جمعة من وفاة الشيخ أبي منصور: أن اليوم
ختموا على رأس قبره مائتي وإحدى وعشرين ختمة.
قال السلفي: وقال لي علي بن محمد بن الأيسر العكبري- وكان رجلاً صالحًا-: حضرت
جنازة الشيخ الأجل أبي منصور بن يوسف، وأبي تمام بن أبي موسى القاضي، فلم أرَ قط
خلقًا أكثر ممن حضر جنازة الشيخ أبي منصور. قال: واستقبلنا يهوديّ فرأى كثرة
الزحام والخلق، فقال: أشهدُ أن هذا الدين هو الحق، وأسلَمَ.
وذكر ابن السمعاني: سمعتُ أبا حفص عمر بن المبارك بن سهلان، سمعت الحسين بن خسرو
البلخي، قال: رُئي الشيخ أبو منصور الخياط في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك?
قال: غفر لي بتعليمي الصبيان فاتحة الكتاب.
قرأتُ على أبى حفص عمر بن حسن المزي: أخبركم إسماعيل بن عبد الرحمن الفراء أنبأنا
الإمام أبو محمد عبد اللّه بن أحمد المقدسي قال: قرأت على أبي عبد اللّه مظفر بن
أبي نصر البواب، وابنه أبي محمد عبد الله بن مظفر ببغداد، قلت لهما: حدثكما الإمام
الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر قال: كنتُ أسمع الفقهاء في النظامية يقولون: في
القرآن معنى قائم بالذات، والحروف والأصوات عبارات ودلالات على الكلامٍ القديم
القائم بالذات، فحصل في قلبي شيءٌ من ذلك حتى صرت أقول بقولهم موافقة. وكنتُ إذا
صليتُ أدعو اللّه تعالى أن يوفقني لأَحَبِّ المذاهب والاعتقادات إليه، وبقيت على
ذلك مدة طويلة أقول: اللهم وفقْني لأحب المذاهب إليك وأقربها عندك.
فلما كان في أول ليلة من رجب سنة أربع
وتسعين وأربعمائة رأيت في المنام كأني قد جئت إلى مسجد الشيخ أبي منصور الخياط،
والناس على الباب مجتمعون، وهم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخ أبي
منصور، فدخلتُ المسجد، وقصدت إلى الزاوية التي كان يجلس فيها الشيخ أبو منصور،
فرأيتهُ قد خرج من زاويته، وجلس بين يدي شخص، فما رأيت شخصًا أحسن منه على نعت
النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي وُصِف لنا. وعليه ثيابٌ ما رأيت أشد بياضًا منها،
وعلى رأسه عمامةٌ بيضاء. والشيخ أبو منصور مقبل عليه بوجهه، فدخلتُ فسلمتُ، فردَّ
عليّ السلام، ولم أتحقق مَنِ الرادِّ عليَّ لدهشتي برؤية النبي صلى الله عليه وسلم
وجلستُ بين أيديهما فالتفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير أن أسأله عن شيء
أو أستفتحه بكَلام أصلاً، وقال لي: عليك بمذهب هذا الشيخ. عليك بمذهب هذا الشيخ.
عليك بمذهب هذا الشيخ.
قال الحافظ أبو الفضل: وأنا أُقسم بالله ثلاثًا، وأشهد بالله لقد قال لي ذلك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَا. ويشير في كل مرةٍ بيده اليمنى إلى الشيخ أبي
منصور.
قال: فانتبهتُ وأعضائي ترعد، فناديتُ والدتي رابعة بنت الشيخ أبي حكيم الحبري،
وحكيتُ لها ما رأيت، فقالت: يا بني، هذا منامُ وحي، فاعتمد عليه.
فلما أصبحت بكرت إلى الصلاة خلف الشيخ أبي منصور. فلما صلينا الصبح قصصتُ عليه
المنام، فدمعت عيناه، وخشع قلبُه، وقال لي: يا بُني، مذهبُ الشافعي حسن، فتكون على
مذهب الشافعي في الفروع، وعلى مذهب أحمد وأصحاب الحديث في الأصول، فقلت له: أي
سيدي، ما أريد أكون لونين. وأنا أشهد اللّه وملائكته وأنبيائه، وأشهدُك على أني
مُنذ اليوم لا أعتقد ولا أدين اللّه ولا أعتمدُ إلا على مذهب أحمد في الأصول
والفروع. فقبَّل الشيخ أبو منصور رأسي، وقال: وفقك اللّه، فقبَّلتُ يدَه.
وقال لي الشيخ أبو منصور: أنا كنتُ في ابتدائي شافعيًا. وكنت أتفقه على القاضي
الإمام أبي الطيب الطبري، وأسمع الخلاف عليه. فحضرت يومًا عند الشيخ أبي الحسن علي
بن عمر القزويني الزاهد الصالح لأقرأ عليه القرآن، فابتدأت أقرأ عليه القرآن، فقطع
علي القراءة مرة أو مرتين، ثم قال: قالوا وقلنا، وقلنا وقالوا. فلا نحن نرجع
إليهم، ولا هم يرجعون إلى قولنا، ورجعنا إلى عادتنا. فأيّ فائدة من هذا? ثم كرر
عليّ هذا الكلام، فقلت في نفسي: واللّهِ ما عنى الشيخ بهذا أحدًا غيري، فتركتُ
الاشتغال بالخلاف. وقرأتُ مختصر أبي القاسم الخرقي على رجل كان يُقرىء القرآن.
قال الحافظ: ورأيتُ بعد ذلك ما زادني يقينًا، وعلمتُ أن ذلك تثبيتٌ مِن الله،
وتعليمٌ لأعرف حق لْعمة اللّه عليَّ وأشكره، والله المسؤولُ الخاتمة بالموت على
الإسلام والسنة آمين.
جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، المقرىء، المحدث، الأديب أبو محمد:
وُلد سنة سبع عشرة
وأربعمائة في آخرها- أو في أول سنة ثمان عشرة- ذكره السلفي عنه.
وقال شجاع الذهلي: سنة ست عشرة.
وقرأ القرآن بالروايات. وأقرأ سنين.
وسمع أبا علي بن شاذان، وأبا محمد الخلال، وأبا القاسم بن شاهين، والبرمكي
والقزويني، وخلقًا كثيرًا.
وسافر إلى مكة، وسمع بها ودخل الشام، وسمع بدمشق من عبد العزيز الكناني والخطيب
وغيرهما. وسمع بطرابلس، وتوجه إلى الديار المصرية، فسمع بها من أبي إسحاق الحبال
وأبي محمد بن الضراب. وخرّج له الخطيب خمسة أجزاء معروفة، تسمى السراجيات.
وكان أديبًا شاعراً، لطيفًا صدوقًا، ثقة. وصنف كتبًا حسانًا، منها: كتاب
"مصارع العشاق" وكتاب "حكم الصبيان" وكتاب "مناقب
السودان". وشعره مطبوع. وقد نظم كتبًا كثيرة شعرًا، فنظم كتاب
"المبتدأ" وكتاب "مناسك الحج" وكتاب "الخرقي"،
وكتاب "التنبيه" وغيرها.
ذكر ذلك ابن الجوزي، وقال: حدثنا عنه أشياخنا. وآخر من حدثنا عنه شهدة بنت
الإبَري، قال: وقرأتُ عليها كتابه المسمى ب "مصارع العشاق" بسماعها منه.
قال: ومن أشعاره:
بان الخليط فـأدمـعـي |
|
وجدًا عليهم تسـتـهـلُّ |
وحدا بهم حادي الـفـرا |
|
ق عن المنازل فاستقلوا |
قل للـذين تـرحّـلـوا |
|
عن ناظري والقلب حلوا |
ودمي بـلا جـرم أتـي |
|
ت غداة بينهم استحلُـوا |
ما ضرَّهم لو أنهـلـو |
|
من ماء وصلهم وَعلوا |
قال: وأنبأنا أبو المعمر الأنصاري، أنشدنا جعفر السراج لنفسه:
قل لـلـذين بـجـهـلـهــم |
|
أضحوا يَعِيبُون الـمـحـابـر |
والحـامـلـين لـهـا مـن الأ |
|
يدي بمـجـتـمـع الأسـاوِرْ |
لولا الـمـحـابـر والـمـقـا |
|
لم والصحـائف والـدفـاتـر |
والحـافـظـون شـريعة الـم |
|
بعوث من خـير الـعـشـائر |
والـنـاقـلـون حـديثـــه |
|
عن كابـرٍ ثَـبْـت وكـابِـر |
لرأيت مـن شـيع الـضــلا |
|
ل عساكراً تتلـو عـسـاكـر |
كل يقـول بـجـهــلـــه |
|
والله للـمـظـلـوم نـاصـر |
سمـيتُـم أهـل الــحـــد |
|
يث: أولى النهي وأولى البصائر |
حشـوية فـعـلـــيكـــم |
|
لعـن يزيركـم الـمـقـابـر |
هم حَـشُـو جـنـات الـنـع |
|
يم على الأسرة والـمـنـابـر |
رفـقـاء أحـمـد كـلـهــم |
|
عن حـضـه ريان صــادر |
أنبأنا أحمد بن علي الجزري، عن محمد بن عبد الهادي، عن أبي طاهر السلفي أنشدنا أبو
محمد جعفر بن محمد السراج لنفسه:
سقى الله قبراً حل فيه ابنُ حنـبـلٍ |
|
من الغيث وَسْمِيًّا على إثـرِه وَلـي |
على أن دمعي فيه روَّى عظـامـه |
|
إذا فاض ما لم يبل منها وما بلـي |
فللَّه رب الناس مَـذْهَـبُ أحـمـد |
|
فإنَّ عليه مـا حـييتُ مُـعـوَّلـي |
دَعَوْة إلى خلق القرآن كمـا دعـوا |
|
سواه فلـم يسـمـع ولـم يتـأوَّلِ |
ولا ردَّه ضربُ السياط وسـجـنـه |
|
عن السُّنَّة الغراء والمذهب الجلـي |
ولما يزدهم، والسـياق تـنـوشـه |
|
فشلَّتْ يمينُ الضارب المتـبـتـل |
على قوله: القرآنُ، وليشهد الـورى |
|
كلامك يا ربَّ الورى، كيفما ما تُلي |
فمن مبلغ أصحـابـه أنـنـي بـه |
|
أفاخرُ أهلَ العلم في كل محـفـلِ |
وألقى به الزهاد كـلَّ مـطـلِّـقٍ |
|
من الخوف دنياه طلاق التـبـتـلِ |
مناقبه إن لم تحن عـالـمـاً بـهـا |
|
فكشفاً طروس القوم عنهن واسـألِ |
لقد عاش في الدنيا حميدًا مـوفـقـاً |
|
وصار إلى الأخرى إلى خير منزلِ |
وإني لراج أن يكون شـفـيعَ مـن |
|
تولاَّه من شيخ ومن مـتـكـهـلِ |
ومِن حَدثِ قد نوَّر اللّـهُ قـلـبَـه |
|
إذا سألوا عن أصله. قال: حنبلـي |
وقد روى هذه الأبيات عن جعفرٍ الحافظان: محمد بن ناصر، ويحيى بن منده
وساقها في كتابه "مناقب أحمد".
وقد أثنى عليه شجاع الذهلي، وعبد الوهاب الأنماطي، وابن ناصر، وقال: كان ثقة،
مأمونًا عالمًا، فهمًا صالحًا.
كتبَ الكثيرَ. وصنف عدَّة مصنفات وكان قديمًا يستملي على أبي الحسن القزويني، وأبي
محمد الخلال، وغيرهما.
قال القاضي عياض: سألتُ أبا علي بن سكرةعن جعفر السراج. فقال: شيخٌ فاضل جميل وسيم
مشهور يفهم. عنده لغة وقراءات. وكان الغالب عليه الشعر.
وذكره القاضي أبو بكر بن العربي، فقال: ثقة، عالم، مقرىء. له أدبٌ ظاهر، واختصاص
بالخطب.
وقال السلفي: كان ممن يفتخر برويته وروايته لديانته ودرايته. وله تواليف مفيدة.
وفي شيوخه كثرة. وأعلاهم إسنادًا ابن، شاذان.
وقال ابن النجار: كتبَ بخطه الكثير، وكانت له معرفة بالحديث والأدب وحدَّث بالكثير
على استقامة وسداد، ببغداد، والشام، ومصر.
وسمع منه الأئمةُ الكبار والحفاظ. وكان متدينًا حسن الطريقة، مع ظرفه ولطف أخلاقه.
رَوى عنه أبو القاسم بن السمرقندي، وعبد الوهاب الأنماطي، وابن ناصر، والسلفي،
وغيرهم.
ومن شعر جعفر السراج:
للـه دَرُ عـصـــابة |
|
يسعَوْنَ في طلب الفوائدْ |
يدعون أصحاب الحـدي |
|
ث بهم تجلت المشاهـدْ |
طوراً تراهم بالصعـي |
|
د وتارةً في ثغرِ آمـدْ |
يتَتَبعون مـن الـعـلـو |
|
م بكل أرضٍ كلَّ شاردْ |
فهُمُ النجومُ المُهتَـدى |
|
بهمُ إلى سُبُل المقاصِدْ |
وله:
إذا كنتمُ تكتـبـونَ الـحـدي |
|
ثَ ليلاً وفي صبحكم تسمعون |
وأفنيتُـم فـيه أعـمـاركـم |
|
فأيّ زمانٍ به تـعـمـلـون |
قال ابن الجوزي: كان جعفر السراج صحيح البدن، لم يعتوره في عمره مرض يُذكر، فمرض أيامًا.
وتوفي ليلة الأحد العشرين من صفر سنة
خمسمائة. ودُفن بالمقبرة المعروفة بالأجمة من باب أبرز.
وقيل: مات ليلة الأحد، حادي عشرين صفر. كذا قال ابن ناصر والذهلي.
وفيات المائة السادسة
من سنة 501 ه إلى سنة 540 صلى الله عليه وسلم
رجب بن قحطان بن الحسن بن قحطان الأنصاري، الضرير أبو المعالي المقرىء الأديب:
سمع من أبي الحسين بن النقور. وحدّث
باليسير. سمع منه هزارسب بن عوض وغيره.
وقال أبو الفضل بن عطَّاف: كان من مجودي القراء، والمحسنين في الآداء ذا فضل وعقل
وأدبٍ.
توفي سنة اثنتين وخمسمائة.
ومن شعره أنشده عنه أبو بكر المزْرَفي:
إنما المرء خلاص جائز |
|
فإذا جربته فهو شبـه |
وتراه راقدًا في غفـلة |
|
فهو حيّ فإذا مات انتبه |
أحمد بن علي بن أحمد العلثي، أبو بكر الزاهد:
ذكره أبو الحسين، وابن الجوزي في الطبقات فقال: أحد المشهورين بالزهد والصلاح. سمع الحديث على القاضي أبي يعلى، وقرأ عليه شيئًا من المذهب.
وقال أبو الحسين: صحب الوالد سنين. سمع درسه والحديث منه. وكان يعمل بيده يُجصص
الحيطان، ثم ترك ذلك، ولازم المسجد يقرىء القرآن ويؤم الناس وكان عفيفًا لا يقبل
من أحدٍ شيئاً، ولا يسأل أحدًا حاجةً لنفسه من أمر الدنيا، مقبلاٌ على شأنه ونفسه،
مشتغلاً بعبادة ربه، كثير الصوم والصلاة، مُسَارعًا إلى قضاء حوائج المسلمين،
مكرمًا عند الناس أجمعين.
وكان يذهب بنفسه كل ليلة إلى دجلة، فيأخذ في كوز له ماء يفطر عليه، وكان يمشي
بنفسه في حوائجه ولا يستعين بأحدٍ . وكان إذا حج يزور القبور بمكة، ويجيء إلى قبر
الفُضيْل بن عياض، ويخط بعصاه، ويقول. يا رب ههنا، يا رب ههنا. فاتفق أنه خرج في
سنة ثلاث وخمسمائة إلى الحج. وكان قد وقع من الجمل في الطريق دفعتين، فشهد عرفة
محرمًا، وبه بقية من ألم الوقوع، وتوفي عشية ذلك اليوم- يوم الأربعاء، يوم عرفة-
في أرض عرفات. فحمل إلى مكة، فطيفَ به البيت. ودفن يوم النحر إلى جنب قبر الفضيل
بن عياض رضي الله عنه.
وذكره في التاريخ أيضًا، فذكره نحوًا من ذلك. وقال: كان يتنزه عن عمل النقوش
والصور. وكان له عقار قد ورثه عن أبيه، فكان يبيع منه شيئًا فشيئًا، فيتقوّت به.
وذكر أبو الحسين: أن سَبَب تركه لصناعته: أنه دخل مرة مع الصُناع إلى بعض دور
السلاطين مُكرهًا. وكان فيها صور من الاسفيداج مجسمة، فلما خلا كسرها كلها،
فاستعظموا ذلك. فقال: هذا منكرُ، والله أمر بكسره فانتهى أمرُه إلى السلطان، وقيل
له: هذا رجلٌ صالح مشهور بالديانة، وهو من أصحاب ابن الفراء، فقال: يخرج، ولا
يكلم، ولا يقال له شيء يضيق به صدره، ولا يُرجع يُجاء به إلى عندنا.
قال: وظهر له من الكرامات غير قليل.
أخبرني من أثق به: أنه كان لبعض أهله صبي صغير، فظهر به وَجَعٌ في حلقه ورقبته،
وخافوا منه على الصبيَّ، فحمله إلى الشيخ فقرأ عليه، ونفث من ريقه، فزال ما كأن به
بعد يوم أو يومين، ولم يحتج إلى علاج.
قال ابن الجوزي: وصحب القاضي أبا يعلى. وقرأ عليه طرفًا من الفقه، وسمع منه
الحديث، وحدَّث عنه بشيء يسير.
قلتُ: روى عنه ابن ناصر، والسلفي. ولما بلغ خبر موته إلى بغداد نودي في البلد
بالصلاة عليه صلاة الغائب، فحضر الناس في جامعي بغداد من الجانبين. وحضر أصحاب
دولة المستظهر بالله أمير المؤمنين. وتقدم للصلاة عليه في الجانب الشرقي بعض أصحاب
القاضي.
قال أبو الحسين: وصليتُ عليه أنا في مسجدي بباب المراتب، لعذر، وصلَّى معي جماعة.
محمد بن علي بن محمد بن عثمان بن المراق الحلواني، أبو الفتح الفقيه الزاهد:
وُلد سنة تسع وثلاثين وأربعمائة. وسمع
الحديث من أبي الحسين بن المهتدي وأبي الغائم بن المأمون، والقاضي أبي علي، وأبي
جعفر بن المسلمة، والصريفيني، والنهرواني، وغيرهم. ورأى القاضي أبا يعلى وصحبه مدة
يسيرة، ثم تفقه على صاحبيه الفقيهين: أبي علي يعقوب، وأبي جعفر الشريف. ودرس
عليهما الفقه أصولاً وفروعًا، حتى برع فيهما. وأفتى، ودرس بمسجد الشريف أبي جعفر
بالحريم بعد شافع. وحدَّث بشيء يسير.
قال ابن شافع: كان ذا زهادة وعبادة. وروى عنه السلفي في مشيخته، وقال: كان من
فقهاء الحنابلة ببغداد. وكان مشهورًا بالورع الثخين، والدين المتين.
توفي يوم الجمعة- يوم عيد النحر- سنة خمس وخمسمائة، وصُلِّي عليه من الغد يوم
السبت بالجامع. وكان الجمع متوفرًا جدًا، لا يعلم عددهم إلا الله تعالى. ودفن
بمقبرة باب حرب.
وقال المبارك بن كامل: تُوفي يوم الجمعة حادي عشر ذي الحجة.
قلتُ: له كتاب "كفاية المبتدي" في الفقه مجلدة، ومصنف آخر في الفقه أكبر
منه، ومصنف في أصول الفقه في مجلدين، وله "مختصر العبادات". قاله ابن
النجار.
المعمر بن علي بن المعمر بن أبي عمامة البقال البغداديّ، أبو سعد
الفقيه الواعظ. ريحانة البغداديين:
وُلد سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وسمع من ابن غيلان، وأبي محمد الخلال والجوهريّ،
وأبي القاسم الأزجي، وغيرهم.
وكان فقيهًا مفتيًا، وواعظًا بليغًا فصيحًا، له قبول تام، وجواب سريع، وخاطر حاد،
وذهن بغداديّ. وكان يضرب به المثل في حدِّة الخاطر، وسرعة الجواب بالمجون، وطيب
الخلق، وله كلمات في الوعظ حسنة، ورسائل مستحسنة. وجمهور وعظه حكايات السلف. وكان
يحصل بوعظه نفع كثير. وكان في زمن أبي علي بن الوليد شيخ المعتزلة، يجلس في مجلسه،
ويلعن المعتزلة.
وخرج مرة فلقي مغنية قد خرجت من عند تركي فقبض على عودها، وقطع أوتارها، فعادت إلى
التركيّ فأخبرته، فبعثَ من كبَسَ دَارَ أبي سعد وأُفلتَ، واجتمع بسبب ذلك
الحنابلة، وطلبوا من الخليفة إزالة المنكرات كلها، كما سبق ذكر ذلك في ترجمة
الشريف أبي جعفر.
وكان أبو سعد يعظ بحضرة الخليفة المستظهر والملوك. وقال يومًا للمستظهر في وعظه:
أهونُ ما عنده أن يجعل لك أبواب العراص توابيت.
ووعظ "نظام الملك" الوزير مرة بجامع المهدي، فقال: الحمدُ للّه ولي
الإنعام، وصلى الله على من هو للأنبياء ختام، وعلى آله سُرج الظلام، وعلى أصحابه
الغرّ الكرام. والسلام على صدر الإسلام. ورَضِيّ الإمام. زَينه اللّهُ بالتقوى،
وختم له بالحسنى، وجمع له بين خير الآخرة والدنيا.
معلوم يا صدر الإسلام، أن آحاد الرعية من الأعيان مخيَّرون في القاصد والوافد: إن
شاءوا وصَلُوا، وإن شاءوا فَصلُوا، وَأَما من توشح بولاية فليس مخيرًا في القاصد
والوافدة لأن من هو على الخليفة أَمير، فهو في الحقيقة أجير، قد باع زمنه وأخذ
ثمنه. فلم يبق له من نهاره ما يتصرف فيه على اختياره، ولا له أن يصلي نفلاً، ولا يدخل
معتكفًا، دون الصدد لتدبيرهم، والنظر في أمورهم، لأن ذلك فضل، وهذا فرض لازم.
وأنتَ يا صدر الإسلام، وإن كنت وزير الدولة، فأنت أجير الأمة، استأجرك جلال الدولة
بالأجرة الوافرة لتنوب عنه في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا: ففي مصالح
المسلمين. وأمَّا في الآخرة: فلتجيب عنه ربّ العالمين. فإنه سيقفه بين يديه، فيقول
له: ملَّكتُكَ البلاد، وقلدتك أزمّة العباد. فما صنعتَ في إفاضة البذل، وإقامة
العدل? فلعله يقول: يا ربّ اخترتُ من دولتي شجاعًا عاقلاً، حازمًا فاضلاً،
وسمَّيتُه قوام الدين ونظام الملك، وها هو قائم في جملة الولاة وبسطت بيده في
الشرط والسيف والقلم، ومكنته في الدينار والدرِهم، فاسأله يا ربّ: ماذا صنع في
عبادك وبلادك? أفتحسن أن تقولَ في الجواب: نعم تقلدتُ أمور البلاد وملكت أزمة
العباد وبثثت النوال، وأعطيت الإفضال، حتى إذا قربت من لقائك، ودنوت من تلقائك،
اتخذت الأبواب والبواب، والحِجاب والحجاب ليصُدُّوا عني القاصد، ويردُّوا عني
الوافد?.
فاعمر قبرك كما عمرت قصرك، وانتهز الفرصة ما دام الدهر يقبل أمرك، فلا تعتذر، فما
ثمَّ من يقبل عذرك.
وهذا ملك الهند. وهو عابد صنم ذهبَ سمعُه، فدخل عليه أهل مملكته يعزونه في سمعه،
فقال: ما حسرتي لذهاب هذه الجارحة من بدني، ولكن تأسفي لصوت المظلوم لا أسمعه
فإغيثه، ثم قال: إن كان قد ذهب سمعي فما ذهب بصري فليؤمر كل ذي ظلامة أن يلبس
الأحمر، حتى إذا رأيتُه عرفتُه فأنصفته.
وهذا "أنوشروان" قال له رسول
ملك الروم: لقد أقدرتَ عدوَّك عليك بتسهيل الوصول إليك. فقال: إنما أجلس هذا
المجلس لأكشف ظُلاَمَةً وأقضي حاجةً.
وأنتَ يا صدر الإسلام، أحق بهذه المأثرة، وأولى بهذه وأحرى من أعدَّ جوابًا لتلك
المسألة، فإنَه "اللّهُ الّذي تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَرْنَ مِنْه"
مريم: 90. في موقفٍ ما فيه إلا خاشع، أو خاضع أو مقنع، لينخلع فيه القلب، ويحكم
فيه الرب، ويعظم فيه الكرب، ويشيب فيه الصغير، ويعزل فيه الملك والوزير، يوم
"يتَذكَّرُ الإنْسَانُ، وَأنَّى لَهُ الذِّكْرَى" الفجر: 23،
"يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِن خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ
مِنْ سُوءٍ تَوَدّ لَوْ أنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا" آل
عمران: 30.
وقد استجلبت لك الدعاء، وخلدت لك الثناء، مع براءتي من التهمة. فليس لي - بحمدالله
تعالى- في أرض الله ضيعة ولا قرية، ولا بيني وبين أحد خصُومة، ولا بي - بحمد اللّه
تعالى- فقر ولا فاقة.
فلما سمع "نظام الملك" هذه الموعظة بكى بكاءً شديدًا، وأمر له بمائة
دينار.
فأبى أن يأخذها، وقال: أنا في ضيافة أمير المؤمنين. ومن يكن في ضيافة أمير
المؤمنين يقبح عليه أن يأخذ عطاءَ غيره. فقال له: فُضَّها على الفقراء، فقال:
الفقراء على بابك أكثر مِنْهُمْ على بابي، ولم يأخذ شيئًا.
توفي أبو سعد يوم الإثنين ثامن عشرين ربيع الأول، سنة ست وخمسمائة، ودفن من الغد
بمقبرة باب حرب. رحمه اللّه تعالى.
قال ابن الجوزي: حكى أبو المكارم بن رميضاء السقلاطوني قال: رأيتُ أبا سعدٍ ابن
أبي عمامة في المنام حين اختصم المسترشد والسلطان محمود وعليه ثياب بياض فسلمتُ
عليه، وقلتُ: من أينَ أقبلتَ? قال: من عند الإمام أحمد بن حنبل، وها هو ورائي
فالتفتُ فرأيتُ أحمد بن حنبل، ومعه جماعة من أصحابه، فقلت: إلى أين تقصدون? قال:
إلى أمير المؤمنين المسترشد بالله لندعو له، فصَحبتهم، فانتهينا إلى الحربية إلى
مسجد ابن القزويني. فقال أحمد بن حنبل: ندخلُ، فأخذ الشيخ معنا، فدخل باب المسجد.
فقال: السلام عليكم ورَحمةُ الله وبركاته. فإذا الصوتُ من صَدرِ المسجد: وعليك
السلام، ثم قال: يا أبا عبد اللّه، الإمام قد نصر. قال: فانتبهتُ مَرْعُوبًا. وكان
كما قال الشيخ.
جعفر بن الحسن الدَّرْزيجاني، المقرىء، الفقيه، الزاهد:
ذكره القاضي أبو الحسين فيمن تفقه على
أبيه، وعلق وسَمع الحديث. ثم ذكر ترجمته كما ذكرها ابن شافع في تاريخه، فقال: هو
الأمار بالمعروف، والنهَاء عن المنكر، ذو المقامات المشهودة في ذلك، والمهيب بنور
الإيمان واليقين لدى الملوك والمتصرفين.
صحب القاضي أبا يعلى، وتفقه عليه، ثم تمم على صاحبه الشريف أبو جعفر.
وختم عليه القراَن خلق لا يحصون كثرة.
وكان من عباد الله الصالحين، أمَّارًا بالمعروف، قَوالاً بالحق، ناهيًا عن المنكر،
لا تأخذه في اللّه تعالى لومة لائم، مهيبًا وقورًا، له حرمةٌ عند الملوك
والسلاطين، ولا يتجاسر أحد أن يقدم عليه إذا أنكر منكرًا. وله المقامات المشهودة
في ذلك. مداومًا للصيام والتهجُد والقيام. له ختمات كثيرة جدًا، كل ختمة منها في
ركعة واحدة. وسمع الحديث من أبي علي بن البناء.
توفي في الصلاة ساجدًا، في شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسمائة، بِدَرزِيْجان.
رحمه الله تعالى.
قال المبارك بن كامل: سمعتُ عبد الوهاب بن قاسم بن علي الشعراني قال: رأيتُ جعفر
الدرزيجاني جاء إلى بغداد، فالتقى به أبو الحسين الدرزيجاني، فقال له: كيف تركت
الصبيان? فقال له: "ولْيَخْشَ الذين لو تركُوا من خَلْفِهِمْ ذُرّية ضِعَافًا
خَافوا عَلَيْهم فَلْيَتقُوا اللهَ ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا" آل عمران:
9، تقوى اللّه لنا ولهم.
علي بن محمد بن علي بن أحمد بن إسماعيل الأنباري، القاضي أبو منصور
الفقيه الواعظ. وُلد يوم الخميس خامس
عشرين ذي الحجة، سنة خمس وعشرين وأربعمائة. وقرأ القرآن على ابن الشرمقاني.
وسمع الحديث من أبي طالب بن غيلان، والجوهري، أبي إسحاق البرمكي، وأبي بكر بن
بشران، وأبي محمد الصريفيني، وأبي الحسين بن المهتدي، وأبي الغنائم بن المأمون،
وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي بكر الخطيب، وغيرهم.
وسمع من القاضي أبي يعلى. وتفقه عليه
حتى برع في الفقه. وأفتى ووعظ بجامع القصر وجامع المنصور وجامع المهدي. وكان
مظهرًا للسنة في مجالسه.
وشهد عند أبي عبد الله بن الدامغاني، وأبي بكر السامي، وغيرهما. وولي القضاء بباب
الطَاق وحَدث وانتَشرت الرِواية عنه. فروى عَنهُ عبد الوهاب الأنماطي، وعبد الخالق
بن أحمد بن يُوسُف، وأبو المعمر الأنصاري، والمبارك بن خضير، والسلفي.
تُوفي يوم السبت رابع عشرين جمادى الآخرة، سنة سبع وخمسمائة. ودُفِنَ من الغَد
بمقبرة باب حرب. وتبعَه من الخلق ما لا يُحصى كثرةً، ولا يَعدُّهم إلا أسرع
الحاسبين. كذا ذكره ابن شافع.
وفي تاريخ ابن السمعاني عن أبي الفضل بن عطَّاف: أنه توفي ليلة السبت المذكورة.
قال أبو الحسين: صليتُ عليه إمامًا بجامع المنصور في المقصورة. قال: وحَدّث عن
الوالد بكثيرٍ من سماعاته ومصنَّفاته.
إسماعيل بن محمد بن الحسن بن داود الأصبهاني، الخياط أبو علي:
سمع الكثير، وكتب بخطه. وكان خطه
دقيقًا مطبوعًا.
دخل بغداد سنة سبع وخمسمائة. وحَدّث بها عن والده، وعن أبي بكر محمد بن أحمد بن
الحسن بن ماجة، وأبي مطيع المضري، وغيرهم.
سمع منه أبو منصور محمد بن ناصر البردي. وقال: كان من الأئمة الكبار، وهو أخو أبي
سعد محمد بن داود.
قال ابن النجار: قرأتُ بخط أخيه أبي سعد: تُوفي أخي أبو علي إسماعيل في العشر
الأواخر من جُمادى الآخرة سنة ثمان وخمسمائة. رحمه اللّه تعالى.
إسماعيل بن المبارك بن محمد بن أحمد بن وصيف البغدادي
الفقيه أبو حازم: وُلد سنة خمس ثلاثين
وأربعمائة.
وقرأ الفقه على القاضي أبي يعلى، وسمع منه، ومن ابن العشاري، والجوهري.
روى عنه أبو المعمر الأنصاري، وبالإجازة ابن كليب.
وتوفي في رجب سنة ثمان وخمسمائة.
أحمد بن الحسن بن أحمد المخَلَّطِيّ، البغدادي الفقيه، أبو العباس الدباس:
صحب القاضي أبا يعلى. وتفقه عليه،
ولازمه، وسمع منه الحديث. وكتب الخلاف وغيره من تصانيفه.
وسمع أيضًا من أبي الحسن بن المهتدي، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي الحسين بن
الأبنوسي، وأبي علي بن وشاح، وأبي علي المباركي وغيرهم. وحَدّث عنهم.
قال ابن ناصر الحافظ: وسمعتُ منه. قال: وكان رجلاً صالحًا من أهل القران،
والسّتْرِ والصيانة، ثقة مأمونًا.
توفي ليلة الأربعاء ثاني عشر جُمادى الأولى سنة ثمان وخمسمائة. ودُفن مِنَ الغَدِ
بمقبرة باب حربٍ . رحمه الله.
و "المخلَّطِي" بفتح اللام المشددة- نسبة إلى المخلَّط، وهو النُّقْلُ،
ولعله كان يَبِيعُه.
نقلتُ من بعض تعاليق الإمام أبي العباس بن تيمية، قال: نقلتُ من خط أحمد بن الحسن
بن أحمد المخلّطي على ظهر الجزء الثاني والأربعين من تعليق القاضي، ثم رأيتُه أنا
بخط المخلّطي، قال: رأيتُ بخط شيخنا- يعني القاضي أبا يعلى- قال: إذا وقفَ داره
على مسجد وعلى إمام يصلي فيه: كان للإمام نصف الارتفاع، كما لو وقفها على زيدٍ
وعمرو، إنه بينهما. فإن وقفه على مساجد القرية وعلى إمام يُصلي في واحد منها: قسم
الارتفاع على عدد المساجد، وعلى الإمام. فإن وقفها على المسجد خاصة: لم يجز أن
يدفع إلى إمام يصلي فيه. ولا يصرف في بواري المسجد لأن ذلك من مصلحة المصلين، لا
من مصلحة المسجد.
محمد بن سعد بن سعيد العسَّال، المقرىء، أبو البركات بن الحنبلي
يلقب التاريخ: ولد في ربيع الآخر سنة
سبعين وأربعمائة.
وقرأ بالروايات على رزق اللّه التميمي، ويحيى بن البستي، وغيرهما.
سمع من أبي نصر الزينبي، وأبي الغنائم بن أبي عثمان، والقاضي ابن البطر والنعالي
وغيرهم. وعلق الفقه عن ابن عقيل.
وكان من القراء المجودين، الموصوفين بحُسن الأداء، وطيب النغمة. يُقصد في رمضان،
لسماع قراءته في صلاة التراويح، من الأماكن البعيدة. وكان دينًا صالحًا، صَدُوقًا،
حَدَّث.
سمع منه ابن ناصر، والسلفي. قال: وكان من أحسن الناس تلاوةً للقرآن، وكتب الحديث
الكثير معنا وقبلنا. وهو حنبلي المذهب. علق الفقه عن ابن عقيل.
توفي يوم الثلاثاء سابع رمضان سنة تسع وخمسمائة. وصُلي عليه بجامع القصر. وكان
الجمع متوفرًا. ودفن بباب حرب رحمه اللّه تعالى.
هبة الله بن المبارك بن موسى بن علي بن يوسف السَّقَطي، أبو البركات
المحدّث، الرَّحَّال: ذكر
أنه وُلد سنة خمس وأربعين وأربعمائة.
وسمع الحديث ببلدِه بغداد، من جماعةٍ، منهم: القاضي أبُو يَعلى. وتفقه عليه.
ورحل إلى واسط، والبصرة، والكوفة، والموصل، وأصبهان، والجبال، وغيرها. وبالغ في
الطلب. وتعب في جمع الحديث وكتابته.
وكان له فضل ومعرفة بالحديث واللغة. وجمع الشيوخ وخرج التخاريج.
جمع لنفسه مُعجَمًا لشيوخه في نحو ثمانية أجزاء ضخمة. وجمع تاريخًا لبغداد ذيل به
على تاريخ الخطيب. وكان مجدًّا في الطلب والسماع، والبحث عن الشيوخ، وإظهار مسموعاتهم،
والقراءة عليهم.
كتب عن أصحاب الدارقطني، وابن شاهين، والمخلص، وابن حبابة، والحربي، وطبقتهم ومن
دونهم، حتى كتب عن أقرانه، ومن دونه. وزاد به الشَره في هذا الأمر، حتى ادَّعى
السماعَ من شيوخٍ لم يَسْمَع منهم. ولا يحتمل سِنُّه السماع منهم، كأبي محمد الجوهري
وغيره.
وسئل شجاع الذهلي عن روايته عن الجوهري. فقال: ما سمعنا بهذا قط وضعَّفه فيه جدًا.
قال ابَن الَسَمَعانيٍ: سألتُ ابن ناصر عن السقطي، فقلت له: أكان ثقة. فقال: لا
والله. حدَّث بواسط عن شَيوِخ لم يرهم، وظهر كذبه عندهم.
قال: وسمعتُ ابن ناصر غَيَرَ مِرَّة يقول: السقطيّ لا شيء، وهو مثل نسبه من سقط
المتاع. وقد أثنى عليه السلفي، وعدّه من أكابر الحفاظ الَذين أدركهم. وكان له نظم
حسن، ومعرفة بالأدب.
قال أبو القاسم بن السمرقندي: كنَّا في مجلس أبي محَمد- رزق اللّه التميمي،
فأنشدنا:-
فما تَنفعُ الآداب والعلم والحِجى |
|
وصَاحِبُها عند الكمال يمُـوت |
كما مات لقمان الحكيم وغيره |
|
كلُّهم تحتَ التراب صُمُـوت |
وكان هبة الله السقطي في المجلس حاضرًا، فأجابه ببيتين، وأنشدناهما من لفظه لنفسه.
بلى أثرٌ يبقـى لـه بَـعـدَ مـوتـه |
|
وذخرٌ له في الحشر لـيس يفـوت |
وَمَا يستوي المنطيق ذو العلم والحجى |
|
وأخرس بين الناطقـين صـمُـوت |
توفي يوم الإثنين ثالث
عشرين ربيع الأول سنة تسع وخمسمائة وصَلَّى عليه من الغد بالجامع أبو الخطاب
الكلوذاني الفقيه إمامًا، ثم حُمِلْ إلى باب حرب فدُفن قريبًا من قبر منصور بن
عمَّار.
وقيل: توفي يوم الثلاثاء المذكور. وقيل: في جُمادى الآخرة. والصحيح الأول.
قال ابن الجَوزي: حكى هبة الله السقطي، قال: قال محمد بن الخليل البوشنجي: حدثني
محمد بن علي الهرِوي- وكان تلميذ أبي المعالي الجويني- قال: دخلتُ عليه في مرضه
الذي مات فيه وأسنانه تتناثر من فيه ويسقط منها الدود لا يستطاع شم فيه. فقال: هذا
عقوبةُ تَعَرُّضي بالكلام، فاحذروا.
??محمد بن الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء البغدادي، الواعظ، أبو نصر بن الإمام أبي علي
المتقدم ذكره: ولد حادي عشرين صفر، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
وسمع من الجوهري، وأبي بكر بن بشران، والعشاري، وأبي على المباركي ووالده أبي علي
بن البناء وطبقتهم. وتفقه على أبيه، وحدَّث.
روى عنه أبو المعمر الأنصاري، وأبو سعد بن البغدادي، وابن ناصر، وأثنى عليه ووثقه.
وكان من أهل الدين والصدق، والعلم
والمعرفة. وخلف أباه في حلقته بجامع القصر وجامع المنصور.
توفي ليلة الأربعاء خامس عشر ربيع الأول سنة عشر وخمسمائة- وفي تاريخ ابن النجار:
سادس ربيع الأول- وصلى عليه من الغد أبو الحسن الفاعوسي الزاهد، بجامع القصر.
ودُفن بباب حَرب.
وقيل: تُوفي في صفر. والأول أصح.
محفوظ بن أحمد بن الحسن بن أحمد الكلوذَاني، أبو الخطاب البغدادي
الفقيه. أحد أئمة المذهب وأعيانه: وُلد
في ثاني شوال سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
وسمع الحديث من الجوهري والعُشَاري، وأبي على الجازري، والمباركي، وأبي الفضل بن
الكوفي، والقاضي أبي يعلى، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي الحسين بن المهتدي، وغيرهم.
وكتب بخطه كثيرًا من مسموعاته. ودرس الفقه على القاضي أبي يعلى، ولزمَهُ حتى برع
في المذهب والخلاف. وقرأ عليه بعض مصنفاته. وقرأ الفرائض على أبي عبد الله الوني،
وبرع فيها أيضًا. وصار إمام وقته، وفريد عصره في الفقه. ودرَّس وأفتى، وقَصَده
الطلبة.
وصنف كتبًا حسانًا في المذهب والأصول والخلاف. وانتُفع بها بحسن قصده.
فمن تصانيفه:
"الهداية" في الفقه، "والخلاف الكبير" المسمى "بالانتصار
في المسائل الكبار"، و "الخلاف الصغير" المسمى ب "رؤوس
المسائل".
ونقل عن صاحب المحرر أبي البركات بن تيمية: أنه كان يشير إلى أن ما ذكره أبو
الخطَّاب في رؤوس المسائل هو ظاهر المذهب.
وله أيضًا كتاب "التهذيب" في الفرائض، و "التمهيد" في أصول
الفقه، وكتاب "العبادات الخمس"، و "مناسك الحج".
وكانت له يَدُ حسنة في الأدب. ويَقُول الشعر اللطيف. وله قصيدة دالية في السنة
معروفة، ومقطعات عديدة من الشعر.
وكان حسن الأخلاق، ظريفًا، مليح النادرة، سريع الجواب، حادّ الخاطر. وكان مع ذلك
كامل الدين، غزير العقل، جميل السيرة، مرضي الفعال، محمود الطريقة. شهد عند قاضي
القضاة أبي عبد الله بن الدامغاني. وَحَدَّث بالكثير من مسموعاته على صدق
واستقامة.
روى عنه ابن ناصر وأبو النعم الأنصاري، وأبو طالب بن خضير، وسعد الله بن الدجاجي،
ووفاء بن الأسعد التركي، وأبو الفتح بن شاتيل، وغيرهم.
وروى عند ابن كليب بالإجازة. وقرأ عليه الفقه جماعة من أئمة المذهب منهم عبد
الوهاب بن حمزة، وأبو بكر الدينوري، والشيخ عبد القادر الجيلي الزاهد، وغيرهم.
قال أبو بكر بن النقور: كان الكيا الهراسي إذا رأى الشيخ أبا الخطاب مقبلاً قال:
قد جاء الفقْه.
قال السلفي: أبو الخطاب من أئمة أصحاب أحمد، يُفتي على مذهبه ويناظر.
وكان عدلاً رضيًا ثقة. عنده كتاب "الجليس والأنيس" للقاضي أبي الفرج
الجريري عن الجازري عنه. وكان ينفرد به ولم يتفق لي سماعه. وندمت بعد خروجي من
بغداد على فواته. وكذلك أثنى ابن ناصر على أبي الخطاب ثناءً كثيرًا.
وذكر ابن السمعاني: أن أبا الخطاب جاءته فتوى في بيتين من شعر، وهما:
قُلْ للإمام أبي الخطَّاب مـسـألةً |
|
جاءتْ إليكَ، ومَا يُرجى سِوَاك لَهَا |
ماذا على رَجُلٍ رَام الصلاة فمُـذْ |
|
لاَحَتْ لِناظرِه ذاتُ الجمَال لَهَـا. |
فكتب عليها أبو الخطاب:
قُل للأديب الذي وافى بمـسـألةٍ |
|
سَرَّتْ فؤاديَ لمَّا أن أصَخْتُ لَهـا |
إنَّ الذي فَتنتـهُ عَـنْ عـبـادتـه |
|
خَرِيدةٌ ذاتُ حُسْن فانثنى ولـهـا |
إنْ تابَ ثمَّ قضَى عنه عـبـادتَـه |
|
فرَحمَةُ الله تغشى من عَصَى ولها |
توفي رحمه اللّه في آخر يوم الأربعاء ثالث عشرين جُمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة، وتُرك يوم الخميس، وصُلي عليه يوم الجمعة في جامع القصر. ودُفن إلى جانب قبر الإمام أحمد رضي اللّه عنه. كذلك حرَّر وفاتَه القاضي أبو بكر بن عبد الباقي.
وكذا ذكره ابن شافع.
وذكر ابن الجوزي: أنه توفي سحر يوم الخميس. ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة.
وذكر ابن شافع: أن أبا الحسن بن الفاعوس الزاهد صلَّى عليه إمامًا. وحضر الجمعُ
العظيم والجندُ الكثير. ودُفن بين يدي صف الإمام أحمد، بجنب أبي محمد التميمي.
رحمه الله تعالى.
قرأتُ بخط أبي العباس بن تيمية في تعاليقِه القديمة: رئي الإمام أبو الخطاب في
المنام، فقيل له: مَا فَعل اللّه بك. فأنشد:
أتيتُ ربي بـمـثـل هـذا |
|
فقال: ذا المذْهبُ الرشـيدُ |
محفوظُ نَمْ في الجنان، حتى |
|
ينقلكَ السائقُ الـشـهـيدُ |
قرأتُ على أبي الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصري بها: أخبركم أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحرَّاني، أخبرنا عبد المنعم بن عبد الوهاب بن علي الحراني، أخبرنا أبو الخطاب محفوظ بن أحمد في كتابه، أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري، أخبرنا أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني، أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي، حدثنا فضل- يعني: ابن سهل- حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رجل: "يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك. فقال: طُوبى لمَنْ رآني وآمَنِ بِي، وطوبَى ثمَّ طُوبى ثمَّ طُوبَى لِمَنْ آمَنَ بِي وَلَمْ يَرَني. فقال الرجل: يا رسول الله، ما طوبى. قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام. ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها". وبه إلى أبي الخطاب.
وأنشد من قوله:
بأبي من إذا شكوتُ إليه |
|
حبَّه قال: ذا محالٌ ولَهْوُ |
وإذا ما حلفتُ بالـلـه أنـي |
|
صادقٌ، قال لي: يمينُك لغوُ |
لا ومن خَصّه بحسـنٍ بـديعٍ |
|
وجمالٍ جسمي به اليومَ نِضْوُ |
لا تبَدَّلْتُ في هواه ولا خُنْـتُ |
|
وَلاَ حَل لي عليه الـسُـلُـوُ |
وقوله أيضًا:
يَقُولُ لِيَ الأحِبَّةُ: لا تـزُرنـا |
|
على حالٍ، ونحن فلا نزورُ |
فْقلت: متى أطعت? فقال هذا |
|
وقلت أحبكم فالـقـولُ زورُ |
وقوله أيضًا:
كيف أخفي هواكُـم وعـلـيه |
|
شاهدُ الحزن والنُّـحـول يَنِـمُ |
وإذا اللائمون لاموا فَطـرفـي |
|
في هواكم أعمى وسمعي أصَمُّ |
أنتمُ لِلفـؤادِ هَـمٌّ ولـلـعَـيْ |
|
نِ سُهَادٌ للـجـوانـح سُـقْـمُ |
كل يوم تُجَدِّدون عـلـى قـلْ |
|
بي عَذاباً وليسَ للقلـب جُـرْمُ |
ولئن دَام ذا، وَلا دام مـنـكـم |
|
تَلِفَتْ مُهجتي وفـي ذاك إثـمُ |
وقوله أيضًا:
علام أُجازَى بالوصال قـطـيعة |
|
وبالحب بغضاً. إن ذا لعـجـيبُ |
وكم ذا التجني منك في كل ساعة |
|
أما لفؤادي من رضاك نـصـيبُ |
لئن لان جنبي عندكم فهو والهوى |
|
منيعٌ ولكنَّ الحـبـيبُ حـبـيبُ |
وإن كان ذنبي عندكم كلفي بـكـم |
|
فما أنا منـه مـا حَـييتُ أتـوبُ |
غرامي بكم حتى المماتِ مضاعفٌ |
|
وقلبي لكُمْ عندي علـيَّ رقـيبُ |
ومن شعر أبي الخطَاب، أورده ابن النجار من طريق أبي المعمر الأنصاري رضي الله عنه:
إنْ كنتَ يا صاحِ بوجدي عالمـاً |
|
فلا تكنْ لي في هـواه لائمـا |
وإن جَهِلت مـا ألاقـي بـهـم |
|
فانظر تَرَ دُموعيَ السواجِـمـا |
هُمْ قتلوني بالصُدود والـقـلـى |
|
وما رعَوْا في قتليَ المحارَمـا |
يا من يخاف الإثم في وصلي أَما |
|
تخاف في سفك دمي المآثمـا? |
هبْني رضيتُ أن تكون قاتلـي |
|
فهل رضيتَ أن تكون ظالما? |
سلوا النجوم بَعدكم عن مضجعي |
|
هل قَرَّ جَنْبي أو رأتْني نائمـاً? |
واستقبلوا الشمال كيما تنظـروا |
|
من حرّ أنفاسي بها سمـائمـا |
وهذه الأيكُ سلـوا الأيكَ: أَلـمْ |
|
أُعلّم النوحَ بها الـحـمـائمـا |
لقد أقمتُ بعد أن فارقـتـكـم |
|
على فؤادي بينهـا مـآثـمـا |
كان أبو الخطاب رضي اللّه
عنه فقيهًا عظيمًا كثير التحقيق، وله من التحقيق والتدقيق الحسن في مسائل الفقه
وأصوله شيء كثير جدًا. وله مسائل ينفرد بها عن الأصحاب.
فما تفرد به قوله: إن للعصر سنة راتبة قبلها أربع ركعات.
وقوله: إن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وإنها ترد إلى من أخذت منه من
المسلمين على كل حال، ولو قسمت في المغنم أو أسلم الكافر وهي في يده.
ومن ذلك قوله: إن الأضحية يزول الملك فيها بمجرد الإيجاب، فلا يملك صاحبها إبدالها
بحال.
ومن ذلك ما ذكره في الهداية: أن الزرافة حَرَام. وقال السامري: هو سهو منه.
ومن ذلك: قوله بطهارة الأدهان المنجسة، التي يمكن غَسلها بالغسل.
ومن ذلك قوله: إنّ من ملك أختين: لم يجز له الإقدام على وطء واحدة منهما حتى تحرم
الأخرى عليه، بإزالة ملكه عنها أو عن بعضها، كما لو كان قد وطىء إحداهما، ثم أراد
وطء الأخرى. وقد رأيتُ في كلام الإمام أحمد في رواية إسحاق بن هانىء ما يدل على
مثل ذلك. ونصه مذكور في مسائل ابن هانىء في كتاب الجهاد.
ومن ذلك قوله: إنّ النكاح لا ينفسخ بسبي واحدٍ من الزوجين بحال، سواء سُييَا معاً
أو سُبِيَ أحدهما وحده. وقد حكى بن المنذر الإجماع على انفساخ نكاح المسيبة وحدها
إذا كان زوجها في دار الحرب. وحكاه غير واحدٍ من أصحابنا أيضًا كابن عقيل. وهو
ظاهر القران. وحديثُ أبي سعيد في صحيح مسلم صريحٌ في ذلك. والعجب أنه ذكر في
الانتصار: أن حديث أبي سعيد لا يصح. قال: والدليل على ضعفه أن سبايا أوطَاسٍ كُنَّ
مجُوسيات. وهذا مما يعلم بطلانه قطعًا فإن العرب لم يكونوا مجوسًا.
وقد نسب إلى أبي الخطَّاب التفرّد
بتخريج رواية: بأن الترتيب لا يشترط في الوضوء، وليس كذلك فقد وافقه على هذا
التخريج ابن عقيل، واتفقا على تخريجها من رواية سقوط الترتيب بين المضمضة والاستنشاق،
وسائر أعضاء الوضوء.
وذكر أبو الخطاب في كتاب الصيام من الهداية، رواية عن أحمد: أنّ من دخل في حجّ
تطوع، ثم أفسده: لم يلزمه قضاؤه. ولم يذكر ذلك في كتاب الحج، ولا في غير الهداية.
قال أبو البركات بن تيمية: ولعله سها في ذلك، وانتقل ذهنه من مسألة الفوات إلى مسألة
الإفساد.
وذكر في الانتصار رواية عن أحمد: أن صلاة الفرض تقضى عن الميت كالنذر.
وذكر في الانتصار في مسألة ما إذا قتل واحد جماعةً عمدًا: أن أولياءهم بالخيار، إن
شاءوا قُتل للجميع لا يكون لهم غير ذلك، ويسقط باقي حقوقهم. وإن اختار بعضُهم
القود وبعضُهم الدية: قُتِل لمختار القَوَد، وأخذ من ماله الدية لطالبها، وأن أحمد
نصَّ على ذلك في رواية الميموني.
وذكره الخرقي في مختصره، قال: ويتخرج لنا كقول أبي حنيفة ومالك: يُقتل للجميع،
وليس لهم غير ذلك، على الرواية التي تقول: لا يثبت بقتل العمد غير القود.
ثم قال في آخر المسألة: هذا الفصلُ مشكل على قول أحمد رحمه اللّه لأنه إن قال:
حقوقُ الجميع تساوتْ، فإذا طلبوا القتلَ ليس لهم غيره. وعلّل بأنهم أخذوا بعض
حقوقهم، وسقط بعضها. فقد قال: بأن القصاص يتَبعّضُ في الاستيفاء والإسقاط. وهذا
بعيد. فإنه لو قتل رجلٌ رجلين، فقال وليّ كل واحدٍ منهما: قد عَفَوْتُ لك عن نصف
القصاص، ولكن قد بقي لكل واحدٍ منَّا النصف فيستحق قتلك به: لم يجُز لهم ذلك، وسقط
حقهم من القصاص. ولو كان يتبعض لثبت ذلك. وإن لم يقل بالتبعيض لم يصح قوله: أخذ
بعض الحق وأسقط بعضه. واقتضى أن يقول كقول أبي حنيفة، وأنه يُقتل للجميع، لأن دمه
يساوي دَم الجميع، أو لأنه لم يبقَ محل يستوفي منه، أو يَقُول كما قال الشافعي:
يُقتَل بالأول أو بمن تخرجُه القرعة وتؤخذ الديات للباقين.
والذي يتحقق عندي: أنه يقتل للجميع وتؤخذ من ماله ديات الجميع تقسمُ بينهم، كما
قال أبو حنيفة: إذا قطع يميني رجلين فيقطع لهما، وتؤخذ دية يَدٍ فتقسمُ بينهما،
وكما قال أبو حامد وشيخنا وأصحابنا: إذا قطع مَنْ يده ناقصة الأصابع يدًا تامة
يجوز للمقطوعة يده أن يقطع اليد الناقصة، ويأخذ دية الأصابع فيجتمع القصاصُ
والديةُ ليكمل حَقه، كذلك في مسألتنا. واللّهُ أعلم.
وذكر في الانتصار في مسألة ضمان العارية: أن المبيع إذا فُسِخ لعيبٍ أو غيره،
فتلفت السلعة في يد المشتري: أنه لا ضمان عليه لأن يده يد أمانةٍ. وهذا غريبٌ
مخالفٌ لما ذكره غير واحد من الأصحاب، كالقاضي في خلافه، وابن عقيل، والأزجي في
النهاية.
واختار فيه: أنه يصح أن يضمن بعض ما على فلان من الدين، وإن لم يعين به البعض،
وقال: لا أعلم فيه نصًا عن أحمد.
وفي المْنون لابن عقيل قال: إن الشريف أبا جعفر قال: إن الصحة قياس المذهب، وأنه
اختاره.
واختار فيه: أن عامل الزكاة شريك لبقية الأصناف لا أجير، فلا يجوز أن يكون هاشميًا
ولا عبدًا.
وحكى فيه رواية: أن السيد إذا أذن لعبده في نوع من التجارة. مَلَك التصرف في سائر
الأنواع.
وحكى فيه وجهًا: أن كل صلاة تفتقر إلى تيمم، وإن كانت نوافل.
واختار في الهداية: ردّ اليمين على المدَّعي، فيقضى له بيمينه. وقد أشار إليه أحمد
في رواية أبي طالب.
ووقفتُ على فتاوى أرسلت إلى أبي الخطَّاب رحمه الله من الرحبة، فأفتى فيها في
الشهر الذي تُوفي فيه في جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة.
وأفتى فيها ابن عقيل وابن الزاغوني أيضًا.
فمنها: إذا غاب الزوج قبل الدُخول فطلبت المرأة المهر، فإن الحاكم يُراسل الزوجَ،
ويعلمه بالمطالبة بالمهر، وأنه إنْ لم يبعثْ به إلى الزوجة باع عليه ملكه. فإنْ لم
يبعثْ باعَ عليه. وإن لم يعلم موضِعَه باعَ بمقدار نصف الصداق، وَدَفعه إليها
لجواز أن يكون قد طلقها قبل الدخول ويبقي بقية الصداق موقوفاً.
ووافَقَهُ ابن عقيل على ذلك.
وظاهر هذا: أنه إن أمكن مُرَاسلته وامتنع باع عليه، ودفع إليها كل الصداق للعلم
بأنه لم يُطلق.
وأما ابن الزاغوني: فإنه أفتى بأنه لا
يدفع الحاكم إليها أكثر من نصف الصداق بكل حال لأنه الثابت لها باليقين، والنصف
الباقي يحتمل أن يسقط بطلاق مُتَجدّدٍ.
ويرد على هذا التعليل: أن هذا النصف أيضًا يحتمل سقوطه بفسخٍ لعيب أو غيره من
المسقطات.
ومنها، في وقف السُتور على المسجد: أفتى أنه يَصِح وقفها وتباع، وتنفق أثمانها على
عمارته، ولا تستر حيطانه بخلاف الكعبة، فإنها خُصَّتْ بذلك كما خُصَّتْ بالطواف
حولها.
وخالفه ابن عقيل، وابن الزاغوني، قالا: الوقفُ باطلٌ من أصله، والمال على ملك
الواقف.
ومنها: إذا وجد شاة بمضيعة في البرية فإنه يجوز له أخذها، وذبحها. ويلزمه ضمانها
إذا جاء مالكها. وإذا وجدها بمصر وجب تعريفها. ووافَقَه ابن الزاغوني.
وخالفهما ابن عقيل، وقال: لا يجوزُ له ذبحها بحالٍ، وإن ذبحها أثِمَ ولزمه ضمانها.
ومنها: أن الشاهد لا يجوزُ له أن يشهد على آخر في كتاب مكتوب عليه حتى يقرأه عليه،
أو يقرَّ عنده المكتوب عليه: أنه قرىء عليه أو أنه فَهِمَ جميع ما فيه ولا يجوز
الشهادة عليه بمجرد قوله: اشهد عليَّ بما في هذا الكتاب.
ووافقه ابن الزاغوني على ذلك.
ومنها: كَمْ قدر التراب الذي يستعمل في غسل الإناء من ولوغ الكلب?.
أفتى: أنه ليس له حَدّ. وإنما يكون بحيث تمر أجزاء التراب مع نداوة الماء على جميع
الإناء.
وأفتى ابن عقيل: أنه تكون بحيث تظهر صفته ويغير الماء.
وقال ابن الزاغوني: إن كان المحك لا يضره التراب، فلا بد أن يُؤثر في الماء، وإن
كان يتضرر بالتراب: فهل يجب ذلك، أم يكفي ما يقع عليه اسم التراب وإن لم يظهر
أثره? على وجهين.
ومنها: إشارة الأخرس في الصلاة? أفتى: إذا كثر ذلك منه بطلتْ صلاتهُ.
وأفتى ابن الزاغوني: أن الإشارة بردّ السلام لا تبطل من الأخرس ولا من المتكلم. وما
عداها يجري مجرى العمل في الصلاة، فيفرقُ بين كثيرها ويسيرها.
وأفتى ابن عَقيل: أن إشارة الأخرس المفهومة تجري مجرى الكلام، فإن كانت برَدّ
سلامٍ خاصة لم تبطل، وما سوى ذلك تبطل.
ومنها: إذا كتب القرآن بالذهب تجبُ فيه الزكاة إذا كان نصابًا. ويجز له حكه وأخذه.
ووافقهُ ابن الزاغوني، وزاد: إن كتابته بالذهب حرام، ويُؤمَر بحكه. ولا يجوز للرجل
اتخاذه.
ومنها: إذا أجرت نفسها للإرضاع في رمضان: هل لها أن تفطر، إذا تغير لبنها بالصوم
بحيث يتأذى بذلك المرتضع? أجاب: يَجُوزُ لها ذلك. وإذا امتنعت لزمها ذلك. فإن لم
تفعل كان لأهل الصبي الخيار في الفسخ.
ووافقه ابن الزاغوني، وزاد: متى قصدت بصومها تضرر الصَبي عصتْ وأثمت وكان للحاكم
إلزامها بالفطر، إذا طلبه المستأجر.
ومنها: إذا رأى إنسانًا يغرق، يجوز له الإفطار إذا تيقن تخليصَهُ مِن الغَرق، ولم
يمكنه الصوم مع التخليص.
ووافقه ابن الزاغوني.
ومنها: هلْ يجوز التفريق بين الأم وولدها بالسفر، إذا قصد أن يجعل وطنها دُون
وطنه? أجاب: إنه لا يجوز ذلك.
وأجاب ابن عقيل: إذا كان الولد مستقلاً، غير محتاج إلى تربية الأم، كان الأبُ أحق
به سفرًا، لتخريجه في عمل أو تجارةٍ. وانقطع آخر جوابه.
وأجاب ابن الزاغوني: إذا افترقت بالأبوين الدار، ولم يقصد الأب ضَرر الأم بمنعها
من كفالةِ الولد، فالأب أحق به.
فصل
صَنَّف بعضُ أصحابنا -وهو الوزير ابن
يونس- مصنفاً في أوهام أبي الخطاب في الفرائض ومتعلقاتها من الوصايا والمسائل
الحسابية. ولم أقف عليه كله، بل على بعضه. لكن لأبي الخطاب في هذه المواضع مسائل
متفرقة، يقال: إنها وهمٌ وغلط.
فمنها: مسألة في البيع بتخيير الثمن، والوضيعة منه.
ومسألة في وقف المريض داره التي لا يملك سواها على ابنه وابنته بالسوية، وحكم
إجازتهما وردّهما، وإجازة أحدهما وردّ الآخر. ولتصحيح كلامه فيها وجهٌ فيه تعسيفٌ
شديد.
ومسألة في الوصايا، فيما إذا تَركَ ابنين ووَصى لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلثه،
وحكم إجازتهما وردّهما، وإجازة أحدهما ورد الآخر، وإجازتهما لأحدهما وردهما على
الآخر. قد تأملتُ هذه المسألة، فوجدت الخلل فيها وقع من جهة النَسخ. فإن في الأصل
فيها إلحاقًا اشتبه على النُسَّاخ موضعه، فألحقوه في غير موضعه، فنشأ الخلل في
الكلام، ولزم بسبب ذلك لوازم فاسدة. وقد نسب السامري الوهم فيها إلى أبي الخطاب،
وليس كذلك.
ومنها: مسألة، في باب الإقرار بمشاركٍ
في الميراث. وقد ذكرها أبو البركات في المحرر، وذكر أنها سهو.
ومنها: مسألة في الوصية بسهمِ من سهام الورثة. وقد بين خَللها السامري في مستوعبه.
ومنها: عده الجهات في ذوي الأرحام، وأنها خمسة. وقد اعترف بأنه لم يُسبق إلى ذلك.
وقد ألزمَه صاحب المغني وصاحب المحرر وغيرهما لوازم فاسدة، بسبب ذلك. وطائفة محققي
المتأخرين صَححُوا كلامه في الجهات، وأجابوا عما أورد عليه، وبينوا أنه غير لازم
له. ولولا خشية الإطالة، وأن نخرج عما نحن بصدده من التراجم لذكرنا هذه المسائل
مسألة مسألة، وبينا ما وقع فيه الوهم من غيره، ولكن نذكر ذلك في موضع آخر إن شاء
اللّه تعالى.
يحيى بن عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده العبدي الأصبهاني، الحافظ، الإمام أبو زكريا بن أبي عمرو بن الإمام الحافظ أبي عبد الله بن أبي محمد بن أبي يعقوب
المحدث ابن المحدث، ابن
المحدث ابن المحدث، ابن المحدث، ابن المحدث: وُلد يوم الثلاثاء تاسع عشر شوال، سنة
أربع وثلاثين وأربعمائة بأصبهان.
وسمع من أبيه أبي عمرو، وعميه: أبي القاسم عبد الرحمن، وأبي الحسن عُبيد الله،
وأبي بكر بن ريذة، وسمع منه المعجم الكبير للطبراني عنه، وأبي طاهر الكاتب، وأبي
منصور محمد بن عبد الله بن فضلويه، وأبي طاهر أحمد بن محمود الثقفي، وغيرهم.
ورحل إلى نيسابور، وسمع بها من أبي بكر أحمد بن منصور بن خلف المقرىء، وأبي بكر
البيهقي الحافظ بهمذان، وأبي بكر محمد بن عبد الرحمن النَّهاوندي.
وسمع بالبصرة من أبي القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد الشاهد، وعبد اللّه بن الحسين
السعيداني، وخلق كثير سواهم.
وصنف التصانيف، وأملى، وخَرَّج التخاريج لنفسه، ولجماعة من شيوخ أصبهان.
وحَدّث بالكثير، وسَمِعَ منه الكبارُ والحفاظ من أهل بلده وغيرهم. منهم: الحافظ
أبو القاسم إسماعيل التيمي، ومحمد بن عبد الواحد الدقاق، وأبو الفضل محمد بن هبة
الله بن العلاء.
وقدم بغداد حاجاً، وحَدَّث بها، وأملى بجامع المنصور.
سَمِعَ منه بها: أبو منصور الخياط، وأبو الحسين بن الطيُوري، وهما أسن منه، وأقدم
إسنادًا.
وسَمِع منه بها أيضاً: ابن ناصر، وعبد الوهاب الأنماطي، والسلفي، والشيخ عبد
القادر الجيلي، وأبو محمد بن الخشاب، وعبد الحق اليوسفي، وآخر أصحابه موتًا أبو
جعفر الطرسوسي، وروى عنه بالإجازة أبو سعد بن السمعاني الحافظ.
قال ابن السمعاني: سألتُ إسماعيل التيمي الحافظ عنه. فأثنى عليه وَوَصَفه بالحفظ
والمعرفة والدراية. قال: وسمعتُ أبا بكر اللفتواني الحافظ يقول: بيتُ ابن منده
بُدِىء بيحيى وخُتم بيحيى.
قال ابن السمعاني: يريدُ في معرفة الحديث والفضل والعلم.
وذكر شيرويه بن شهردار الحافظ فقال: قدم علينا سمع منه عامة مشايخ الجبل وخراسان.
وكان حافطاً، فاضلاً مكثرًا، صدوقًا، ثقةً، يحسن هذا الشأن جيدًا، كثير التصانيف،
شيخ الحنابلة ومقدمهم، حَسنَ السيرة، بعيدًا من التكلف، متمسكاً بالأثر.
وذكره محمد بن عبد الواحد الدقاق الحافظ، فقال: الشيخ الإمام الأوحَدُ، عنده
الحديث الكثير، والكتب الكثيرة الوافرة، جمع وصنف تصانيف كثيرة. منها: كتاب الصحيح
على كتاب مسلم بن الحجاج.
وذكره إسماعيل بن عبد الغافر، في تاريخ نيسابور، فقال: رجل فاضل، من بيت العلم
والحديث، المشهور في الدنيا، سَمِع من مشايخ أصبهان، وسافر ودخل نيسابور، وأدرك
المشايخ، وسمع منهم، وجمع، وصنف على الصحيحين. وعاد إلى بلده.
وقال ابن السمعاني في حقه: جليل القدر، وافر الفضل، واسع الرواية، ثقة حافظ، فاضل،
مكثر، صدوق، كثير التصانيف، حسن السيرة، بعيد التكلف، أوحد بيته في عصره. صنف
تاريخ أصبهان، وغيره من الجموع.
قلتُ: وصنف مناقب العباس رضي الله عنه في أجزاء كثيرة.
وللحافظ السلفي فيه يمدحه:
إنَ يحيى فديتُه مـن إمـامٍ |
|
حافظٍ ، متقنٍ، تقيّ، حلـيمِ |
جَمَع النبل والأصالة والفض |
|
لِ وفي العلم فوق كل عليمِ |
وصنف مناقب الإمام أحمد رضي الله عنه في مجلدٍ كبير، وفيه فوائد حسنة.
وقال في أوله: ومن أعظم جهالاتهم- يعني
المبتدعة- وغلوهم في مقالاتهم: وقوعهم في الإمام المرضي، إمام الأئمة، وكهف الأمة،
ناصر الإسلام والسنة، ومن لم تر عين مثله علمًا وزهدًا، وديانة وأمانة. إمام أهل
الحديث أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني قدَّس الله روحه، وبرد عليه
ضريحه. الإمام الذي لا يجارى، والفحلُ الذي لا يبَارَى. ومن أجمع أئمة الدين رحمة
الله ورضوانه عليهم في زمانه على تقدمه في شأنه، ونبله وعلو مكانه. والذي له من
المناقب ما لا يُعَدُّ ولا يحصى. قام للّه تعالى مقامًا لولاه لتجهم الناس، ولمشوا
على أعقابهم القهقرى، ولضعف الإسلام، واندرس العلم.
ولقد صدق الإمام أبو رجاء قتيبة بن سعيد البغلاني حيث قال: إن أحمد بن حنبل في
زمانه بمنزلة أبي بكر وعمر في زمانهما. وأحسن من قال: لو كان أحمد في بني إسرائيل
لكان آية أعاشنا الله تعالى على عقيدته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته.
وحين وقفتُ على سرائر هؤلاء، وخبث اعتقادهم في هذا الإمام، قَصَدت لمجموع نبهتُ
فيه على بعض فضائله، ونبذة من مناقبه. وذكرتُ طرفًا مما منحهُ الله تعالى من المنزلة
الرفيعة، والرتبة العلية في الإسلام والسنة. مع أني لستُ أرى لنفسي أهلية لذلك،
وأن المشايخ الماضين رحمهم الله تعالى قد عنوا بجمعه فشفوا لكني أردتُ أن يبقى له
بجمع مناقبه ذكر، وأن كون مشرفًا فيما بين أهل العلم من أهل السنة بانتسابي إليه،
ونحلي مذهبه وطريقته.
وذكر في أثناء هذا الكتاب: أخبرنا أحمد بن محمد بن جعفر الفقيه إجازة: أخبرنا أبو
مسعود أحمد بن محمد البجلي الطبري قال: قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين
الأسدي، في فضائل الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: لما فرغتُ من سماع
كتاب المسند من أبي بكر القطيعي ببغداد، عن عبد الله عن أبيه رحمهم الله. وتحصيل
نسخة من مائة ونيف وعشرين جزءًا، وجملة ما وعاه الكتاب أربعون ألف حديث غير
ثلاثين- أو أربعين- حديثًا. سمعتُ ذلك من ابن مالك، يقول: وسمعتُهُ أيضًا يقول:
سمعتُ عبد الله يقول: أخرج والدي هذا المسند من جملة سبعمائة ألف حديث. وقد أفردتُ
لذلك كتابَا في جزء واحد، سميته: كتاب "المدخل في المسند" أشبعتُ فيه
ذكر ذلك أجمع. وأنا أسأل الله تعالى انتفاعنا بالعلم، وتوفيقًا لما يقربنا إليه،
فإنه قريب مجيب.
ومنه قال: أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا عبد اللّه بن محمد بن عبد الوهاب، أخبرنا أبو
الحسن العبدي، حدثني أبو الحسين، حدثنا رزين بن أبي هارون قال: قال فوران: ماتتْ
امرأة لبعض أهل العلم، قال: فجاء يحيى بن معين والدورقي. قال: فلم يجدوا امرأة
تغسلها إلا امرأة حائض. قال: فجَاء أحمد بن حنبل، وهم جلوس، فقال: ما شأنكم? فقال
أهل المرأة: ليس نجد غاسلة إلا امرأة حَائض، قال: فقال أحمد بن حنبل: أليس تروون
عن النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة، ناوِليني الْخُمْرَةَ. قَالَتْ: إني
حَائِضٌ، فَقَال: إن حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يَدَكِ" يجوزُ أن تغسلها. قال:
فخجلوا وبقوا.
سمعتُ أبا العباس البيهقي يقول: سمعتُ أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعتُ أبا جعفر
محمد بن أحمد بن سعيد يقول: سمعتُ العباس بن حمزة يقول: سمعتُ أِحمد بن حنبل رحمه
الله يقول: الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فمن لم يعمل هنا نَدِمَ هُناك.
وروي من طريق النقاش: سمعتُ الدارقطني: سمعتُ أبا سهل بن زياد: سمعتُ عبد اللّه بن
أحمد بن حنبل يقول: سُئل أحمد رحمه الله عن الفتوة. فقال: تَرْكُ ما تهوى لما
تخشى.
ومن طريق أحمد بن مروان المالكي، حدثنا إدريس الحداد قال: كان أحمد بن حنبل إذا
ضاق به الأمر اَجر نفسه من الحاكة فسوَّى لهم. قال إدريس: فلما كان أيام المحنة،
وصُرِف إلى بيته حُمِلَ إليه مال جليل، وهو محتاجٌ إلى رغيف يأكله، فردَّ جميع
ذلك، لم يقبل منه قليلاً ولا كثيرًا، قال: فجعل عمه إسحاق يحسب ما رد، فإذا هو
خمسمائة ألف- أو نحوها- فقال له: يا عم، أراك مشغولاً بحساب ما ليس يُحسب، فقال:
قد رددت اليوم كذا وكذا، وأنت محتاج إلى حبة. فقال: يا عم، لو طلبنا لم يأتنا.
وإنما أتانا لَمَّا تركناه.
أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد
الرحيم، أخبرنا أبو محمد بن حبان: سمعتُ أبا جعفر البردي: سمعتُ إسماعيل بن قتيبة
سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: إن الْقَلَنْسُوَه لتقع من السماء على رأس من لا
يحبُّها.
أخبرنا أبي رحمه الله، أخبرنا أبو عمر بن عبد الوهاب إجازة، حدثنا أحمد بن محمد بن
عمر، حدثنا أبو عبد الرحمن- يعني: عبد الله بن أحمد- قال: قلتُ لأبي رحمه الله:
يقولون: إنك تتوضأ مما مسَّت النار. قال: ما فعلته قط، ولم يثبت عندي في ذا خبرٌ.
أخبرنا عمّي الإمام، أخبرنا عليّ بن عبد الله بن جَهضم بمكة، حدثنا محمد بن أبي
زكريا الفقيه، حدثنا عبدوس بن أحمد، حدثنا أبو حامد الخُلْقاني قال: قلتُ لأحمد بن
حنبل: ما تقول في القصائد. فقال: في مثل ماذا. قلت: مثل ما تقول:
إذا ما قال لـي ربِّـي: |
|
أما استحييت تعصينـي |
وتُخفي الذنب من غيري |
|
وبالعصيان تأتـينـي? |
قال: فرد الباب، وجعل يقول:
إذا ما قال لـي ربِّـي: |
|
أما استحييتَ تعصينـي |
وتُخفي الذنبَ مِنْ غَيْري |
|
وبالعصيان تأتـينـي? |
فخَرَجتُ وتركته.
أخبرنا عمي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد بن قاذويه، أخبرنا عبد الله بن محمود،
أخبرنا أبو حاتم محمد بن إدريس قال: ولقد ذكر لأبي عبد الله أحمد بن حنبل رجل من
أهل العلم، كانت له زلة، وأنه تاب من زلته، فقال: لا يقبل الله ذلك منه حتى يظهر
التوبة والرجوع عن مقالته، وليعلمن أنه قال مقالته كيت وكيت، وأنه تاب إلى الله
تعالى من مقالته، ورجع عنه، فإذا ظهر ذلك منه حينئذ تقبل، ثم تلا أبو عبد اللّه
"إلاَّ ا الَذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا" البقرة:160.
ومن طريق أبي أحمد بن علي، حدثنا عبد المؤمن بن أحمد بن جوثرة الجرجاني: سمعتُ
عمار بن رجاء يقول: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: طلب إسناد العلو من السنة.
أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا يحيى بن عمار بن يحيى كتابة: أن أبا جعفر محمد بن أحمد
بن محمد الصفار أخبره: حدثنا محمد بن إبراهيم الصرام، حدثنا عثمان بن سعيد
الدارمي، قال: قال أحمد بن حنبل رحمه الله: كنا نرى السكوت عن هذا قبل أن يخوض فيه
هؤلاء. فلما أظهروه لم نجد بدًا من مخالفتهم.
ووجدتُ في كتب الإمام عمِّي بخطَه: قال القاسم بن محمد أبو الحارث: حدثنا يعقوب بن
إسحاق البغدادي، سمعتُ هارون الحمال يقول: سمعت أحمد بن حنبل، وأتاه رجل فقال: يا
أبا عبد اللّه: إن ههنا رجل يُفضِّلُ عمر بن عبد العزيز على معاوية بن أبي سفيان،
فقال أحمد: لا تجالسه، ولا تؤاكله ولا تشاربه، وإذا مرض فلا تعُده.
أخبرنا أبي وعماي رحمهم اللّه، أخبرنا والدنا رحمه الله، أخبرنا محمد بن عبد الله
بن يوسف العماني، حدثني جَدِّي العباس بن حمزة قال: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول:
سبحانك، ما أغفل هذا الخلق عما أمامهم! الخائف منهم مقصر، والراجي منهم متوانٍ .
أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا عبد الله بن عمر الكرخي، أخبرنا سليمان بن أحمد بن
أيوب، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سُئِلَ أبي عن رجل وجب عليه تحرير رقبة
مُؤمنة، فكان عنده مملوك سوء، لقنه أن يقول بخلق القرآن? فقال: لا يجزي عنه عتقه
لأن الله تبارك وتعالى أمره بتحرير رقبة مؤمنة، وليس هذا بمؤمن. هذا كافر.
أخبرنا الإمام عمي، أخبرنا أبي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر، حدثنا عبد
الله بن أحمد بن حنبل قال: سألتُ أبي عن قوم يقولون: لما كلم اللّه موسى عليه
السلام لم يتكلم الله بصوت، فقال أبي رحمه الله: بل تكلم عزَّ وجل بصوت. هذه
الأحاديث نمرها كما جاءت.
قال أبي رحمه الله: حديث بن مسعود "إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كمرِّ
السلسلة على الصفوان". قال أبي: وهذه الجَهميَّة تنكره. قال أبي: وهؤلاء كفار
يريدون أن يموهوا على الناس. من زعمّ أن اللّه عز وجل لم يتكلم فهو كافر. إلا أنا
نروي هذه الأحاديث كما جاءت.
أخبرنا عمي الإمام، أخبرنا محمد بن أحمد بن عبد الرحمن، أخبرنا عبد اللّه بن جعفر
بن فارس، حدثنا إسماعيل بن أحمد، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: سألتُ أبي
عن رجل يمتحن بالقرآن: مخلوق، فيحدث. فقالا: كان ابن عيينة يتحَدَّث به، ولم أسمعه
أنا منه.
عن إسماعيل عن قيس قال: اجتمع الأشعث
بن قيس وجرير بن عبد الله على جنازة، فقدم الأشعثُ جريرًا عليها، وقال للناس: إني
ارتددت، ولم يرتد. قال: أنا أقول بهذا الحديث في هذه المسألة. فقلت: إن اجتمع
رجلان، أحدهما قد امتحن، والآخر لم يمتحن? فقال: لا يتقدم، وليُصَل بهم الذي لم
يمتحن. رأى ذلك فضيلة له على من امتحن، وأعجبه حديث قيس عن جرير، قال: هذا أصلٌ من
الأصول، وأعجبه جدًا. وقال: أنا آخذ به.
ومن طريق ابن عبد الرحمن السلمي، أخبرنا أبو محمد، حدثنا الأزهري، حدثنا إسماعيل
بن عمر: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة تأخذ بحلوق المبتدعة.
ومن طريق عبد الله بن محمد بن مندويه، سمعتُ أحمد بن محمد بن مصقلة يقول: سمعتُ
المثنى الأنباري يقول: سألتُ- أو سئل- عبد الله أحمد بن حنبل عن بيع الماء? فقال:
هو ما لا يملكه الرجل. وأما بيع الماء السايح فهو جائز. وكل ما يملكه الرجل فهو
جائز.
أخبرنا أبو القاسم عمي، أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسحاق
الويذاباذي، أخبرنا أبو القاسم الطبراني، حدثنا معاذ بن المثنى العنبري قال: سمعتُ
أحمد بن حنبل يقول: أصول الإيمان ثلاثة: دالّ، ودليل، ومستدل. فالدال: اللّه تبارك
وتعالى، والدليل: القرآن، والمستدل: المؤمن. فمن طعن على حرف من القرآن فقد طعن
على الله تعالى وعلى كتابه وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا عمي أخبرنا أبو القاسم بن قاذويه، أخبرنا عبد الله بن محمد الشروطي سمعت
أبا زكريا القسام يحيى بن عبد اللّه يقول: سمعت أبا عمران الصوفي موسى بن محمد،
وأبا الشيخ الأبهري، يذكران عن أبي بكر الأثرم: أنه سأل أحمد بن حنبل عن دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذه من الفقر? فقال: إنما أراد به فقر القلب.
ومن طريق ابن عدي: سمعت محمد بن سعيد الحراني، سمعت الميموني يقول: سمعت أحمد بن
حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي، والملاحم، والتفسير.
ومن طريق أحمد بن ياسين: سمعت أبا أحمد بن عَبدوس يقول: قال أحمد بن حنبل: من لم
يجمع علم الحديث. وكثرة طرقها واختلافها، لا يحل له الحكم على الحديث، ولا الفتيا
به.
أخبرنا عمي، أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ كتابة: أن يحيى بن محمد العنبري
حدثهم: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد السجزي، سمعت النَّوفلي، سمعت أحمد بن حنبل
يقول: إذا روينا عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام والسنن
والأحكام تشدَّدنا في الأسانيد. وإذا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل
الأعمال، وما لا يضع حكمًا ولا يرفعه تساهلنا في الأسانيد.
ومن طريق محمد بن الحسين- أظنه النقاش- أخبرنا عبد الله بن محمد بن علي بن زياد،
حدثنا محمد بن إبراهيم الماستوي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كتبت في كتاب الحيض تسع
سنين حتى فهمته.
أخبرنا عمي، أخبرنا محمد بن عبد الرزاق، أخبرنا جدي حدثنا محمد بن محمد بن فورك:
سمعت عبد اللّه بن- عبد الوهاب يقول: سُئل أحمد بن حنبل رحمه اللّه: هذه الكتابة
إلى متى العمل به? قال: أخذه العمل به.
أخبرنا أحمد بن الفضل المقرىء إجازة، أخبرنا أبو العباس النسوي شيخ الحرم، حدثنا
عمر بن المقرىء، حدثنا إبراهيم بن المولد، حدثنا أحمد بن مروان الخزاعي، حدثنا
صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعتُ أبي يقول: ما الناس إلا من يقول: حدثنا، وأخبرنا،
وسائر الناس لا خير فيهم.
أخبرنا أبو بكر البيهقي، أنبأني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن
يعقوب، حدثنا مهنا بن يحيى: سألتُ أحمد بن حنبل عن الإقعاء في الصلاة? قال: أليس
يُروى عن العبادلة: أنهم كانوا يفعلون ذلك. قلت: وَمَن العبادلة? قال: عبد اللّه
بن عباس، وعبد الله بن الزيير، وعبد اللّه بن عمر، وعبد الله بن عمرو رضي الله
عنهم. قلت لأحمد: فابن مسعود? قال: ليس ابن مسعود من العبادلة.
ومن طريق محمد بن مخلد: حدثنا حاتم بن محمد، سمعتُ أبا رجاء قتيبة بن سعيد يقول:
أحمد بن حنبل إمام ومن لا يرضى بإمامته فهو مبتدع ضال.
قال يحيى بن منده: نقول- وباللّه التوفيق-: إن أحمد بن حنبل إمام المسلمين، وسيِّد
المؤمنين، وبه نحيا وبه نموت، وبه نبعث، إن شاء الله تعالى. فمن قال غير هذا، فهو
عندنا من الجاهلين.
ومن طريق محمد بن مخلد: حدثنا محمد بن
الحسين بن عبد الرحمن الأنماطي عن أحمد بن عمر بن يونس، حدثنا شيخ رأيته بمكة،
يكنى أبا عبد الله من أهل سجستان ذكر عنه فضل ودين، قال: رأيتُ رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسولَ الله، مَنْ تركتَ لنا في عصرنا هذا من
أمتك نقتدي به في ديننا. قال: أحمد بن حنبل.
قال يحيى بن منده: فما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه ويقظته فهو حق.
وفد ندب صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء به، فلزمنا جميعًا امتثال مَرسُومه،
واقتفاء مأموره.
توفي يحيى بن منده رحمه الله في يوم الجمعة حادي عشر ذي الحجة، سنة إحدى عشرة
وخمسمائة كذا نقله ابن النجار عن أبي موسى الحافظ.
وذكر ابن السمعاني عن بعض الأصبهانيين: أنه توفي في ذي الحجة سنة اثنتي عشرة
وخمسمائة بأصبهان. قال: ثم كتب إلى معمر بن الفاخر من أصبهان: أن ابن منده توفي
يوم عيد الأضحى من السنة.
وذكر غيره: أنه دُفن بباب درية عند قبر والده وجده رحمة الله عليهم أجمعين.
وذكره ابن الجوزي ممن تُوفي سنة اثنتي عشرة، ثم قال: وقيل: تُوفي سنة إحدى عشرة.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم المصري بها، بقراءتي عليه، أخبرنا أبو
الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني، أخبرنا أبو جعفر محمد بن إسماعيل الطرسوسي،
أخبرنا يحيى بن منده الحافظ، أخبرنا محمد بن عبد الله، حدثنا سليمان بن أحمد،
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدَبَري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا الثوري عن عاصم بن
عبيد الله عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: "رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يستاكُ وهو صائم ما لا أحصي".
محمد بن علي بن طالب بن محمد بن زبيبا الخرقي البزار، الفقيه، أبو الفضل بن أبي الغنائم
وقد سبق ذكر والده: وُلد في العشر
الأخير من المحرم سنة ست وثلاثين وأربعمائة.
وقيل عنه: إنه قال: سنة خمس وثلاثين.
وسمع من القاضي أبي يعلى، والجوهري، وابن المُذْهب، وأبي بكر بن بشران، وعمر بن
أبي طالب المكي، وحدث وروى عنه السلفي، وأبو المعمر الأنصاري، وابن ناصر، والمبارك
بن كامل، وعمر بن ظفر، وبالإجازة ذاكر بن كامل، وابن كليب. وكان فقيهًا فاضلاً.
أظنه تفقه على القاضي أو على أبيه المذكور.
وقال ابن الجوزي: قال شيخنا ابن ناصر: لم يكن بحجة. كان على غير السمت المستقيم.
وذكر ابن النجار: أنه قرأ بخط ابن ناصر عنه: أنه كان يعتقد عقيدة الفلاسفة،
تقليدًا عن غير معرفةٍ. نسأل اللّه العافية.
توفي ليلة السبت تاسع شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة. ودفن بمقابر باب أبرز في
العالية. رحمه اللّه وسامحه.
أخبرنا أبو الفتح محمد بن محمد بن إبراهيم- بفسطاط مصر- أخبرنا عبد اللطيف بن عبد
المنعم الحراني، أخبرنا أبو الفرج عبد المنعم بن علي، أخبرنا محمد بن علي بن زبيبا
إذنًا، أخبرنا القاضي أبو يعلى بن الفراء، أخبرنا أبو الفضل عبد اللّه بن عبد الرحمن
الزهري، فيما أذن لنا: أن حمزة بن الحسين بن عمر البزار حدَّثه: حدثني أحمد بن
جعفر عن عاصم الحربي قال: رأيتُ في المنام كأني قد دخلت درب هشام، فلقيني بشر بن
الحارث رحمه اللّه، فقلت: من أين يا أبا نصر. فقال: من عليين. قلت: ما فعل أحمد بن
حنبل? قال: تركتُ الساعة أحمد بن حنبل وعبد الوهاب الوراق بين يدي اللّه عز وجل،
يأكلان ويشربان ويتنعمان. قلتُ: فأنتَ? قال: علم اللّه قلة رغبتي في الطعام
فأبَاحَني النظر إليه.
طلحة بن أحمد بن طلحة بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن بادي بن الحارث بن قيس بن الأشعث بن قيس الكندي العاقولي، الفقيه، القاضي أبو البركات:
وُلد يوم الجمعة بعد صلاتها ثالث عشرين
شعبان سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة بدير العاقول، وهي على خمسة عشر فرسخًا من
بغداد. ودخل بغداد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، واشتغل بالعلم سنة اثنتين وخمسين.
وسمع من أبي محمد الجوهري سنة ثلاث وخمسين، ومن القاضي أبي يعلى، أبي الحسين بن
حسنون، وأبي الغنائم بن المأمون، وأبي جعفر بن المسلمة، وأبي الحسين بن المهتدي،
وأبي الغنائم بن الدجاجي، وهناد النسفي، وجابر بن ياسين